في مؤلفه الأخير «الإقطاع التكنولوجي: ما الذي قتل الرأسمالية؟»، يجادل الاقتصادي والمفكر اليوناني يانيس فاروفاكيس بأن النظام الرأسمالي، الذي شكّل الإطار الاقتصادي العالمي لقرون، لم يعد قائماً كما نعرفه، بل أفسح المجال أمام منظومة جديدة يُسميها «الإقطاع التكنولوجي Techno-feudalism». هذا النظام، وفقاً لفاروفاكيس، لا يقوم على آليات السوق والربح، بل على احتكار البنى الرقمية والريع المستخلص من السيطرة على البيانات.
يشير فاروفاكيس إلى أن السمات الأساسية للرأسمالية – مثل تسعير السلع بناءً على العرض والطلب، وتحقيق الأرباح من خلال الإنتاج القائم على القيمة المضافة – قد تآكلت تحت وطأة الصعود الكاسح لشركات التكنولوجيا الكبرى، مثل أمازون، وغوغل، وميتا، ومايكروسوفت، خاصة بعد الأزمة المالية 2008. فهذه الشركات، في رأيه، لا تسهم في خلق القيمة بالمعنى التقليدي، بل تهيمن على الفضاء الرقمي من خلال امتلاك المنصات، والتحكم في سلاسل التوزيع، واحتكار البيانات، ما يجعلها قادرة على استخلاص الريع من نشاطات المستخدمين والموردين على حد سواء.
ويرى أن هذا التحول يُعيدنا إلى شكل جديد من الإقطاع، حيث لم تعد «الأرض» هي مصدر السلطة والثروة، كما كان الحال في العصور الوسطى، بل أصبحت البيانات هي «الأرض الجديدة»، والمنصات الرقمية بمثابة «إقطاعيات معاصرة» يتحكم من خلالها «أسياد رقميون» بالمستخدمين، الذين يؤدون دور «الأقنان» من خلال تقديم بياناتهم ومحتواهم مجاناً، بينما تحصد الشركات الأرباح دون مقابل عادل.
بماذا استُبدلت النيوليبرالية إذاً؟ لقد استُبدلت بأيديولوجيا جديدة: أيديولوجيا أسميها «حكم الأسياد التقنيين Techlordism». تستبدل التكنولوردية «الفرد الليبرالي»، الذي مجّدته النيوليبرالية، بكائن ضبابي الملامح يُعرف بـ«الإنسان المتصل بالذكاء الاصطناعي a human–AI continuum»، وهو كيان هجين يُمثل امتداداً تفاعلياً بين الإنسان والذكاء الاصطناعي
وفي منشور على صفحته الشخصية في منصة إكس، بتاريخ 15 أبريل، تحت عنوان «النيوليبرالية ماتت. مرحباً بحكم في عصر الأسياد التقنيين»، يستعرض فاروفاكيس البنية الأيديولوجية للنظام الذي يُسميه «الإقطاع التكنولوجي».
ونظراً لأهمية النص، نقدم ترجمته الكاملة إلى العربية:
منذ عام 1971م، كانت النيوليبرالية أيديولوجيا محورية في إضفاء الشرعية على تحرر رأس المال المالي من القيود التنظيمية التي فرضها «النيو ديل-الصفقة الجديدة» ونظام «بريتون وودز» الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.
أما اليوم، فقد صعد شكل جديد من رأس المال يحتاج إلى أيديولوجيا خاصة به كي يتحرر بالكامل: «رأس المال السحابي Cloud Capital». لقد أوجد هذا الشكل من رأس المال نظاماً جديداً لم يعد يقوم على الأسواق أو الربح. أطلقتُ عليه اسم «الإقطاع التكنولوجي»، إذ يعتمد على نمط إنتاج وتوزيع جديد يستمد قوته من رأس المال السحابي، وقد استبدل:
الأسواق بـ«الإقطاعيات السحابية»، مثل أمازون.
والأرباح الرأسمالية بـ«الريوع السحابية».
ولكي يتمكن «أسياد الإقطاع التكنولوجي»، أمثال بيزوس، وثيل، ومسك، وغيرهم، من تحقيق السيطرة الكاملة عبر رأس مالهم السحابي، كانوا بحاجة إلى أيديولوجيا جديدة، تمامًا كما احتاج الماليون (الطبقة المالية)، بعد نهاية نظام بريتون وودز، إلى النيوليبرالية.
فبماذا استُبدلت النيوليبرالية إذاً؟
لقد استُبدلت بأيديولوجيا جديدة: أيديولوجيا أسميها «حكم الأسياد التقنيين Techlordism».
تستبدل التيكولوردية «الفرد الليبرالي»، الذي مجّدته النيوليبرالية، بكائن ضبابي الملامح يُعرف بـ«الإنسان المتصل بالذكاء الاصطناعي a human–AI continuum»، وهو كيان هجين يُمثل امتداداً تفاعلياً بين الإنسان والذكاء الاصطناعي.
كما تستبدل هذه الأيديولوجيا الإيمان النيوليبرالي المطلق بـ«الآلية المقدسة للسوق»، بـ«إلهٍ جديد»: «الخوارزمية»، التي تتجاوز وظائف السوق اللامركزية في معالجة المؤشرات، لتُقدّم آلية مركزية تماماً تُطابق بين البائعين والمشترين بكفاءة احتكارية غير مسبوقة.
وفي هذا السياق، لا يُعدّ دونالد ترامب، بالنسبة لـ«أسياد الإقطاع التكنولوجي» أو «الرأسماليين السحابيين Cloudalists»، سوى أداة نافعة. فهو يخدم مصالحهم عبر سياسات تُطلق العنان لخدماتهم القائمة على الذكاء الاصطناعي دون قيود تنظيمية، وتمنحهم إعفاءات ضريبية هائلة، مما يُعزّز قدرة رأس مالهم السحابي على استخلاص المزيد من الريع من بقية الاقتصاد.
ومن هذا المنظور، فإن تحمّل بعض الخسائر على المدى القصير نتيجة الحروب التجارية والتعريفات الجمركية التي أطلقها ترامب، يُعد ثمناً زهيداً مقابل «استثمار طويل الأجل» في ترسيخ «إمبراطوريتهم الإقطاعية التكنولوجية».