تحولات العلاقة التركية اليهودية: من الدونمة إلى التتار القرم (2)

فرهاد حمي

في هذا النص، نتابع تناول العلاقة اليهودية التركية بعيداً عن سرديات البطل أو الشرير المطلق، مبرزين دور الأفراد والجماعات ذات الهويات المتنوعة كعناصر مكملة للسرديات الكبرى. إذ نسعى لإعادة الاعتبار لـ«الفاعلية الفردية» والسرديات الصغيرة، انسجاماً مع رؤية كارلو غينزبورغ الذي رأى أن تفاصيل حياة الناس، تفتح آفاق فهم التحولات الكبرى بعيداً عن نظريات المؤامرة.

لذا، وفي مقابل السردية التي صاغها «الأتراك البيض» كما أشرنا في الجزء الأول، عمل حزب العدالة والتنمية، منذ توليه الحكم، على بناء سرديته الخاصة. وتُعدّ الدراما التركية ذات الطابع الإيديولوجي والدعائي من أبرز أدواته في معركة السيطرة على المخيال الجمعي، على نحو ما أشار إليه أنطونيو غرامشي في حديثه عن الهيمنة الثقافية.

ويشكّل مسلسل «السلطان عبد الحميد الثاني» محاولة لإعادة الاعتبار إلى لحظة تاريخية مفصلية، من خلال تسليط الضوء على أحداث تعيد قراءة هذا الماضي من منظور جديد. يُصوَّر فيه وصول إيمانويل قارصوه، أحد رموز جمعية الاتحاد والترقي والمنتمي لطائفة الدونمة، إلى قصر يلدز حاملاً رسالة خلع السلطان. كما تتكرّر مشاهد إلحاح تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، على السلطان للسماح هجرة اليهود الأشكناز بالاستيطان في فلسطين. إلى جانب حضور شخصيات مثل عائلة روتشيلد كوسيط فاعل، وألكسندر بارفوس كعقل مدبر يحرّك الأحداث من خلف الستار.

رغم طابعه الدعائي وسطحيّة معالجاته، يبقى الحدث في حد ذاته مثيراً للاهتمام. غير أنّ السرد يغفل السياق الأعمق لتلك اللحظة، متجاهلاً أن ولادة الدولة القومية التركية جاءت نتيجة تحالف معقّد بين البرجوازية التركية الصاعدة، وتأثيرات فكرية من مستشرقين يهود، إلى جانب الدعم التنظيمي والمالي والفكري من جماعة الدونمة لجمعية «تركيا الفتاة». كما لا يمكن إغفال أثر التشابك اليهودي في تشكيل ملامح العثمانية الجديدة.

عموماً، يبقى الحديث عن دور جماعة الدونمة ومناصري الصهيونية في نشأة الجمهورية التركية من الملفات الحساسة التي تمس السياسة والتأريخ معاً. ومع ذلك، اقتحم بعض الكتّاب الأتراك هذا المجال الملغوم، أبرزهم يالجين كوجوك في «أطروحات عن تركيا»، وسونر يالجين في جزئي كتابه «الأفندي»: «الأتراك البيض واليهود» و«المسلمون البيض واليهود».

رغم أهمية رواية الكاتبين، إلا أنه يصعب قبولها دون التحفظ على بعض التحليلات المبالغ فيها. فقد ذهب كلاهما إلى حد تصوير التأثيرات بشكل مفرط، فنسبا إلى العلمانية الجذرية اجتثاث كل ما هو غير تركي، وألصقا بحزب العدالة والتنمية، فكرة اقتلاع الإسلام من الحياة التركية. كما يلفت المؤرخ مارك ديفيد باير في مؤلفه «الدونمة» إلى أن هذه الطروحات غالباً ما تتجاوز الحدود، حيث يطغى خيال المؤامرة على الحقائق والتحليل الموضوعي.

لم يكن بارفوس مجرد رجل مال، بل حلقة وصل بين قوى متصارعة، تربطه علاقات وثيقة بلينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ، ولعب دوراً محورياً في التحضير لمواجهة الإمبراطورية الروسية

خلف الستائر

استناداً إلى ما سبق، لا تقتصر العلاقة التركية اليهودية على الجوانب المالية والإيديولوجية كما أشرنا في مقالتنا السابقة، بل بدأت تتسلل إلى كواليس السياسة، وسط تصاعد حركات القوميات المسيحية المتمرّدة على السلطنة العثمانية. فبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني عام 1897م، كرد فعل على تصاعد القوميات الأوروبية والمجازر التي ارتكبتها الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية ضد اليهود في الشرق، انطلقت مساعي البحث عن وطن بديل لـ«شعب بلا أرض».

في تلك الأثناء، طُرحت تصورات متخيلة لعدد من المدن العثمانية كوجهات محتملة، من بينها أزمير وأدرنة وسالونيك. وقد حازت سالونيك اهتماماً خاصاً، نظراً لكونها تضم أكبر تجمع يهودي في الدولة العثمانية، إضافة إلى كونها مركزاً رئيسياً لجمعية تركيا الفتاة وجماعة الدونمة. لكن هذه الرؤية سرعان ما اصطدمت بتعقيدات الواقع العثماني، لتتجه الأنظار لاحقاً نحو الجنوب، إلى بلاد كنعان، التي سرعان ما تحولت إلى مركز المشروع البديل.

كما أنّ هذه المحاولة سرعان ما ارتطمت بجدار من الرفض الحازم، حين آثر السلطان عبد الحميد الثاني أن يدير ظهره للمشروع الصهيوني، رافضاً فكرة تحويل فلسطين إلى كيان سياسي يهودي مستقل. لم يكن وحده في هذا الموقف؛ فالطائفة اليهودية في إسطنبول بذاتها لم تكن مؤيدة لتلك المطالب، بل كانت ترى في الاندماج داخل نسيج السلطنة خياراً أكثر واقعية وأماناً، مشترطة أن يكون قدوم اليهود إلى أراضي الدولة العثمانية استقبالاً فردياً لا استيطاناً جماعياً ذا طابع سياسي.

بموازة ذلك، أشارت تقارير الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط إلى تنامي نفوذ رأس المال اليهودي داخل جمعية «الاتحاد والترقي» ثم حركة «تركيا الفتاة»، بفعل تقاطع المصالح وتزايد تأثير ألكسندر بارفوس. فلم يكن بارفوس مجرد رجل مال، بل حلقة وصل بين قوى متصارعة، تربطه علاقات وثيقة بلينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ، ولعب دوراً محورياً في التحضير لمواجهة الإمبراطورية الروسية.

استقر بارفوس ما بين عامي 1910م – 1914م في إسطنبول، وكان متنفذاً في دوائر المال والبنوك الأوروبية، وناشطاً فكرياً وإعلامياً ضمن الصحف المقرّبة من جمعية «تركيا الفتاة»، حيث مارس دور المستشار المالي والسياسي والفكري، في لحظة كانت فيها الإمبراطورية العثمانية على مفترق طرق حاسم.

في خضم هذا المشهد المتشابك، رسّخت الحركة الصهيونية حضورها في إسطنبول، متخذة منها قاعدة لنشاطها السياسي، بالتوازي مع تصاعد نفوذ يهود الدونمة من ذوي الأصول التركية في سالونيك، حيث أسهم الطرفان معاً إلى جانب البرجوازية التركية، في إعادة رسم ملامح المرحلة، بكل ما حملته من تحولات.

فلم يكن هذا الحراك بعيداً عن التحوّلات الكبرى التي عصفت بجسد الدولة العثمانية، بل تُوّج بانقلاب مفصلي أزاح السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش الخلافة عام 1909م، على يد تحالف معقّد، كما يسرد المؤرخ ديفيد فرومكين في مؤلفه «سلام ما بعده سلام». وفي العام 1913م، وتحت وطأة المجازر التي طالت اليهود، وتداعيات طرد المسلمين من البلقان، وافقت جمعية «تركيا الفتاة» إلى قبول مشروع هرتزل أخيراً.

خضعت البنية البيروقراطية والعسكرية للإمبراطورية العثمانية، لعدة إصلاحات تركت بصمات أجنبية واضحة، كان أبرزها البعثة العسكرية الألمانية التي تسللت إلى قلب المؤسسة العثمانية، وكان للجناح اليهودي–الألماني في هذه البعثة تأثير بالغ، تجلّى من خلال شخصيتين محوريّتين هما: الجنرال أوتو ليمان فون ساندرز، والجنرال كولمار فون در غولتز، اللذان أشرفا على تدريب جيلٍ من الضباط العثمانيين، من بينهم أنور باشا

ظلال الخارج

لم تنتهِ الحكاية عند هذا الحد، فثمّة بعدٌ خفيّ لا يمكن إغفاله حين تناول ولادة الدولة القومية التركية؛ بعدٌ يتمثّل في الدور المعقّد الذي اضطلعت به القوى الدولية في صناعة النخبة التي قادت هذا المشروع. ففي خضمّ أهوال الحرب العالمية الأولى، كتب بارفوس، المروّج للدعاية التقدّمية الشيوعية، في الصحف العثمانية مقالاً نصح فيه الحكومة قائلاً: «إنّ مصلحتها تكمن في انتصار ألمانيا». في وقتٍ كان بارفوس ينظر إلى إنكلترا بعين الريبة: فهي دولة استعمارية تدعم الحركات الرجعية، ولا تعبأ بمصير الدولة العثمانية، بقدر ما تهتم بمصالحها في مصر والهند، وسعيها المحموم وراء النفط.

يبدو أن أنور باشا ورفاقه لم يُعرضوا عن نصيحة بارفوس، بل استجابوا لها؛ فحين دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا، كان لبارفوس دور ملموس في دعم الباب العالي، إذ ساعده في الحصول على إمدادات حيوية من القمح، وعلى ما يلزم من آلات لتشغيل خطوط السكك الحديدية.

فعلياً، كانت قد خضعت البنية البيروقراطية والعسكرية للإمبراطورية العثمانية، لعدة إصلاحات تركت بصمات أجنبية واضحة، كان أبرزها البعثة العسكرية الألمانية التي تسللت إلى قلب المؤسسة العثمانية. هذه البعثة أعادت صياغة ذراع الجيش العثماني، مُعيدةً هندسته بما يتناسب مع المصالح الخارجية. وكان للجناح اليهودي–الألماني في هذه البعثة تأثير بالغ، تجلّى من خلال شخصيتين محوريّتين هما: الجنرال أوتو ليمان فون ساندرز، والجنرال كولمار فون در غولتز، اللذان أشرفا على تدريب جيلٍ من الضباط العثمانيين، من بينهم أنور باشا. وكان لهما تأثير خاص على كمال أتاتورك، الذي برز نجمه في معركة غاليبولي تحت إشراف فون ساندرز.

نظرت بريطانيا إلى تركيا الجديدة كبوابة استراتيجية نحو الشرق، وحاجز جيوسياسي فعال يحول دون تمدد النفوذ الروسي الشيوعي، فضلاً عن كونها أداة محورية في التحكم بممرات الطاقة الحيوية بين الشرق والغرب

لوزان وتقاطع المصالح

مع أفول نجم ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، لم تتلاشَى هذه النخبة بل نجحت في إعادة تموضعها ببراعة. توجهت هذه النخبة نحو التحالف مع البلشفية الروسية (لا يزال غامضاً ما إذا كان بارفوس قد ساعد في تسهيل هذا التحالف نظراً لعلاقته الوطيدة مع لينين ونخبة تركيا الفتاة)، بيد أن هذا التحول دفع بريطانيا العظمى إلى تعديل سياساتها ضد النخب التركية التي كانت في حالة عداء معها، وذلك خوفاً من انتشار الشيوعية وتعزيز النفوذ الروسي في وسط آسيا والمياه الدافئة. وقد تُوّج هذا التحالف باتفاقية لوزان، التي أرست أسس الجمهورية التركية الحالية على المستوى الدولي.

في معاهدة لوزان، تشابكت مصالح الأطراف المختلفة وتقاطعت أهدافها ضمن شبكة معقدة من الحسابات الجيوسياسية. فقد رأت إنجلترا في ولادة الدولة التركية الحديثة – الأصغر حجماً بكثير من السلطنة العثمانية الواسعة – فرصة سانحة لتكريس استراتيجيتها الشهيرة «فرّق تسد» في المشرق. ولم تكتفِ بريطانيا بذلك، بل نظرت إلى تركيا الجديدة كبوابة استراتيجية نحو الشرق، وحاجز جيوسياسي فعال يحول دون تمدد النفوذ الروسي الشيوعي، فضلاً عن كونها أداة محورية في التحكم بممرات الطاقة الحيوية بين الشرق والغرب.

من جانبهم، استفاد كل من الدونمة ومناصري الصهيونية من فرصة نادرة لتعزيز نفوذهم السياسي والاقتصادي، متطلعين نحو تحقيق مشروعهم الأكبر: دولة إسرائيل، بعد إزالة عقبة إسطنبول بكل ثقلها التاريخي والديني. في حين، اعتبرت البرجوازية التركية الصاعدة تأسيس هوية قومية موحدة تتويجاً لهيمنتها المتزايدة على مفاصل الدولة، ورأت في هذا التحوّل القومي إنجازاً تاريخياً يجسد صعودها ونفوذها في تركيا الجديدة.

لكن هذا «الإنجاز» لم يأتِ من دون ثمن، فقد تزامن مع تصفية الأرمن وبقية الشعوب المسيحية، وفرض سياسة نفي وإنكار ممنهجة تجاه الوجود الكردي. كما جرى إقصاء الإسلام والقوى اليسارية من المجال الثقافي العام، ليُستبدل بثقافة علمانية اتسمت بصرامة لا تقل عن اللاهوت في هيمنتها الرمزية.

لعب النفوذ الصهيوني دوراً حاسماً في إعادة تموضع تركيا إقليمياً، من خلال تحالف استراتيجي قاده بن غوريون مع دول الأطراف، وتُرجم إلى علاقات عسكرية واقتصادية متنامية مع أنقرة، نتج عنها اتفاقيات استراتيجية طويلة الأمد رسمت ملامح علاقة عميقة ومعقدة بين الجانبين

تركيا وتأسيس إسرائيل

في الواقع، تأسست الجمهورية التركية ضمن إطار تحالف نخبوي مغلق، وضع أسس حكم أوليغارشي، لدرجة أن أدولف هتلر عبّر عن إعجابه بهذا النموذج، كما ورد في كتاب «أتاتورك في مخيلة النازية». ومع تصاعد معاداة السامية في أوروبا عقب صعود النازية واستهدافها لليهود تمهيداً للهولوكوست، استضافت الدولة التركية عدداً كبيراً من العلماء والمثقفين اليهود، عقب رسالة وُجّهت إلى أتاتورك عام 1933م، وكان من بينهم ألبرت أينشتاين.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتحوّل ميزان القوة لصالح النازية، استغلت مجموعات من حزب الشعب الجمهوري، بما في ذلك الجناح المتشدد الذي سيؤسس لاحقاً حزب الحركة القومية، الظرف الدولي لتصعيد حملاتهم ضد يهود الدونمة. ورغم دور الأخيرة في تشكيل الهوية الوطنية التركية الحديثة، لم يحميهم ذلك من موجات التحريض المتزايدة ضدهم.

فالهوية التي ساهموا في ترسيخها، بطابعها الأحادي والإقصائي، سرعان ما انقلبت عليهم في لحظة أزمة، حيث أعادت إنتاج منطق التضحية بالاختلاف تحت ضغط التراجع الاقتصادي والتوترات الجيوسياسية. ووجد يهود الدونمة أنفسهم كبش فداء، كما حدث في دول أوروبية أخرى، حيث تتنكر الدولة القومية لمن ساهموا في بنائها حين تهتز ركائزها.

وهكذا، تصدعت العلاقة بين الطرفين مع إقرار «ضريبة الأملاك» عام 1942م، التي استهدفت اليهود بشكل خاص، في إطار خطة منهجية لتقليص نفوذهم الاقتصادي لصالح البرجوازية القومية الصاعدة، وذلك تحت ذريعة تمويل اقتصاد الحرب. وقد اعتبر العديد من المراقبين هذه الخطوة محاكاة لسياسات النازية، لاسيما ما جرى خلال «ليلة الكريستال» عام 1938م، التي مثّلت بداية الاضطهاد العلني لليهود في ألمانيا. مع الفارق، أن التطرف التركي لم يجرؤ على تقليد النازية حتى نهايته.

عاد التوازن إلى العلاقات بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، التي سرعان ما أصبحت لاعباً محورياً في سياسات الشرق الأوسط، وكانت تركيا أول دولة مسلمة تعترف بها دبلوماسياً عام 1949م. وعلى الرغم من بعض الاعتراضات التركية، فإن الهيمنة الغربية، خصوصاً من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، حافظت على استقرار هذا التقارب عبر تهديدات مبطنة بالانقلابات من خلال شبكات الناتو (الغلاديو).

عطفاً على ذلك، لعب النفوذ الصهيوني دوراً حاسماً في إعادة تموضع تركيا إقليمياً، من خلال تحالف استراتيجي قاده بن غوريون مع دول الأطراف، وتُرجم إلى علاقات عسكرية واقتصادية متنامية مع أنقرة، نتج عنها اتفاقيات استراتيجية طويلة الأمد رسمت ملامح علاقة عميقة ومعقدة بين الجانبين.

ما بدا في ظاهره صراعاً محتدماً بين إسرائيل وتركيا، لم يكن في حقيقته سوى عملية تفاوض على الحصص، وتدافع على النفوذ، وتنافس على احتكار الأسواق محلياً ودولياً. هو نزاع بلا قطيعة، وتنافس مضبوط دون انفجار، تُدار خلافاته ضمن حدود الممكن سياسياً واقتصادياً. هذا هو الإطار الفعلي للعلاقة الراهنة بين الطرفين، والذي يمثّل الخلفية الأساسية لفهم التطورات الحالية

 الدونمة والتتار القرم

من جديد، بدأت العلاقة المستقرة بالتزعزع، وذلك تحت تأثير التحولات الدولية الكبرى، منها سقوط الاتحاد السوفياتي، وانتشار نموذج «الرأسمالية المالية» على حساب نموذج التنمية الصناعية الذي كانت تقوده الدولة. وقد تزامن هذا التحول مع تراجع العلمانية الصارمة وصعود الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، لا سيما بعد انقلاب كنعان أفرين، وصعود عهد تورغوت أوزال، توج هذا المسار أخيراً في وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في بداية الالفية.

هذا التغيير لم يُعد تشكيل البنية الاقتصادية فحسب، بل أعاد أيضاً رسم خريطة النفوذ داخل الاقتصاد، حيث تراجع دور رأس المال الصهيوني التقليدي ومناصري الدونمة المرتبطين بالبرجوازية الكلاسيكية في أنقرة وإسطنبول، لصالح نمط رأسمالي جديد أكثر انفتاحاً ومرونة، يسعى إلى الأرباح السريعة، ويجد تعبيره في استثمارات عالمية، منسجمة داخلياً مع ما يُعرف بـ«الرأسمالية القارمشكية».

في الواقع، تبرز قصة صعود «القارمشاكية» أو التتار القرم بشكل لافت، حيث يمثل هؤلاء طبقة رأسمالية إسلامية تركية المنشأ. تعود أصولهم، كما يشير يالجين كوجوك، إلى الدولة الخزرية اليهودية التركية، وينحدرون من سكان القرم والقوقاز وجورجيا الذين نزحوا إلى تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. مع مرور الوقت، أصبحوا يتمتعون بعلاقات قوية مع رأس المال العالمي. من أبرز رموز هذه الطبقة، الملياردير مراد أولكر، صاحب شركة «أولكر القابضة»، الذي تعود أصول عائلته إلى شبه جزيرة القرم. وفقاً لما ذكرته مجلة فوربس، يُعد مراد أولكر أغنى رجل في تركيا لعام 2025. وربما يسلط هذا الأمر الضوء، بشكل غير مباشر، على الترابط العميق في مواقف حزب العدالة والتنمية تجاه أذربيجان، والقرم، وأوكرانيا، وجورجيا، وهنغاريا، وكذلك تجاه اليهود الناشطين في الاقتصاد المالي الأميركي، الذين ينحدرون تاريخياً من هذه المناطق.

مع التحوّلات التي شهدها النظام التركي بعد الالفية، تصاعد التنافس السياسي والاقتصادي بين الأقطاب، ورافقه بروز موجات قومية وإسلامية متطرفة في تركيا، شنت حملات ضد نفوذ الدونمة داخل الدولة. حيث ساهم يالجين كوجوك وسونر يالجين في تأجيج النقاش عبر مؤلفاتهما التي طرحت أسئلة جديدة حول الصدام بين الجذور العميقة للدونمة والتتار القرم في النظام الجمهوري.

لم يقتصر هذا السجال على الجوانب الثقافية أو الهوياتية فحسب، بل تحوّل إلى صراع سياسي واقتصادي شديد، وصل إلى حدّ اتهام كوجوك لبعض العناصر النخبوية السابقة داخل حزب العدالة والتنمية، مثل علي باباجان وداوود أوغلو وعبد الله غول، بأنهم يمثلون نسخة «القرمشاكية الإسلامية»، وغالبية هؤلاء بحسب كوجوك، ينحدرون من أصول خزرية يهودية تاريخياً.

بلغ الصدام ذروته بين التيار العلماني المدعوم من المؤسسة العسكرية ورأس المال التقليدي في إسطنبول وأنقرة، ممثلاً بجمعية «توسياد»، والتيارات الإسلامية والقومية المدعومة من رأس المال الصاعد في قونيا وقيصرية، ممثلة بجمعية «موصياد». تجلى هذا الانقسام في الصراع بين حزب الشعب الجمهوري، الذي حافظ على إرث الدونمة، والتيار العثماني الجديد الذي رفع راية الهوية الإسلامية القومية، معبّراً عن مصالح الأصول القارمشاكية الصاعدة.

استمر هذا التوتر بالظهور في ملفات حساسة في الآونة الأخيرة، كاعتقال أكرم إمام أوغلو، الذي يراه دولت باهجلي بمثابة رمز لرأس المال المتصهين المرتبط بجمعية «توسياد»، والتي طالت الاعتقالات رئيسها عمر أراس أيضاً. هذه المواجهة تعبّر عن صراع أعمق تسعى إلى تشكيل تحالفات داخلية، وإعادة رسم مركز السلطة. صراع تقوده قوى مثل حزب الحركة القومية، والتيارات اليسارية المتطرفة، والإسلاميون، في مواجهة البرجوازية التقليدية والدونمة الأتراك داخل البلاد وحلفائها في الخارج.

تجاوز هذا الصراع حدوده الداخلية في تركيا ليمتد إلى الساحة الجيوسياسية، حيث تجلى في توتر العلاقات مع إسرائيل، خاصة في حادثة دافوس الشهيرة. ورغم التوترات المستمرة بين أنقرة وتل أبيب في محطات مفصلية مثل احتلال العراق، حرب غزة، وسقوط نظام الأسد، لم تصل العلاقات إلى القطيعة التامة، بل ظلت محكومة بالمصالح المتبادلة والتوازنات الإقليمية والدولية، التي تدخل فيها قوى كبرى مثل أمريكا وبريطانيا وروسيا لضبط الإيقاع، وهو ما أكده دونالد ترامب في لقائه الأخير مع بنيامين نتنياهو.

عموماً، ما بدا في ظاهره صراعاً محتدماً، لم يكن في حقيقته سوى عملية تفاوض على الحصص، وتدافع على النفوذ، وتنافس على احتكار الأسواق محلياً ودولياً. هو نزاع بلا قطيعة، وتنافس مضبوط دون انفجار، تُدار خلافاته ضمن حدود الممكن سياسياً واقتصادياً. هذا هو الإطار الفعلي للعلاقة الراهنة بين الطرفين، والذي يمثّل الخلفية الأساسية لفهم التطورات الحالية، وهو ما سنقوم بتفصيله في المقالة القادمة.

 

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.