من سلجوق بيك إلى سابتاي تسفي: جدلية العلاقة التركية اليهودية (1)

 

فرهاد حمي

في الأسابيع الأخيرة، شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تصعيداً غير مسبوق، في ظل التنافس المتزايد بين البلدين على النفوذ في الساحة السورية عقب سقوط نظام الأسد. فقد نفّذت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية استهدفت مواقع عسكرية كانت تركيا بصدد تحويلها إلى قواعد دائمة، ما شكّل تحولاً خطيراً في قواعد الاشتباك الإقليمي. ورغم ما يجمع بين الطرفين من مصالح مشتركة ضمن المعسكر الغربي، فإن التداخل المباشر بينهما في سوريا قد يضعهما على شفا صدام محتمل، إلا أنه في الوقت ذاته يفتح أبواباً جديدة لاحتمالات التفاهم والتسوية المتبادلة.

لفهم هذا التوتر الراهن، يجب أن نعود قليلاً إلى الوراء، حيث تشكل الخلفية التاريخية الإطار الأعمق للعلاقات بين الأتراك واليهود، ولاحقاً إسرائيل. في هذه العلاقات، تتداخل فصول من التعاون مع لحظات نادرة من الصدام، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان الحاضر، يعيد بصيغ جديدة، بعض ملامح الماضي. وهو ما سنتعرض له من خلال ثلاثة مقالات متتالية، نستعرض من خلالها، ولو بشكل نسبي، أبعاد هذا التداخل التاريخي.

على نحو مثير للانتباه، وفي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتقد أردوغان انتهاكات إسرائيل في غزة، وحاول التمييز بين معاداة السامية وانتقاد السياسات الإسرائيلية. لافتاً أنّ الدولة العثمانية كانت قد استقبلت اليهود السفارديم الفارين من اضطهاد الكنيسة في إسبانيا عام 1492م. غير أنه أغفل الإشارة إلى أن العلاقة بين اليهود والأتراك امتدت إلى ما هو أعمق من مجرد لجوء عابر.

تفيد المصادر التاريخية بأن جذور الاستيطان اليهودي، في أراضي الأناضول، تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. فقد شكّلت ملاذاً آمناً لهم من موجات الاضطهاد التي توالت منذ لحظة الشتات. هذه الصورة، بما تحمله من رمزية النجاة، ترسّخت نسبياً في الذاكرة الجماعية اليهودية، كجزء من سرديتهم التاريخية الطويلة.

وباشرت الإمبراطورية البيزنطية، وريثة روما الشرقية، منذ عام 395م، حملة تضييق على اليهود، تمثلت في قرارات متتالية حدّت من حرياتهم الدينية وأدوارهم الاقتصادية والاجتماعية، وهي سياسة استمرت دون انقطاع حتى أُسدلت الستار على العهد البيزنطي مع الصعود العثماني.

بيد أنّ بواكير مظاهر العلاقة بين النخب اليهودية الأشكنازية (يهود شرق أوروبا فيما بعد) والنخب الأتراك البدو، تعود إلى الحقبة التي برزت فيها الدولة الخزرية، وهي كيان تركي بدوي اعتنق ملوكها وحاشيتها وطبقتها العسكرية، الديانة اليهودية عام 750م، حيث كانت تقع بين بحر قزوين وبحر آزوف، وقد وصفها المؤرخ آرثر كُونتسلر في أعماله بالقبيلة الثالثة عشرة، في إشارة إلى خصوصيتها الخارجة عن السياق التقليدي للشعوب اليهودية. وتمركزت هذه الدولة بين سندان الخلافة العباسية الإسلامية في بغداد ومطرقة الإمبراطورية البيزنطية الارثوذكسية، مما جعلها في حالة صراع دائم على مدار تاريخها.

وجاء في بعض الروايات على أنّ سلجوق بيك، مؤسس السلالة السلجوقية والذي كان يقود قبيلة الأتراك الأوغوز في منتصف القرن العاشر، كان قد وقف إلى جانب الدولة الخزرية، حيث شغل منصب «القائد العام العسكري» في فترة حرجة. وقد تأثر سلجوق بيك بالثقافة التي نشأت في الدولة اليهودية التركية، مما يعكس تداخلاً ثقافياً بين الطرفين، على مستوى السلطة والإدارة والعقيدة.

وقف اليهود موقفاً داعماً بقوة للحكم العثماني، إذ رأوا فيه حصناً يحميهم من موجات الاضطهاد المسيحي المتكررة، بشقيها الأرثوذكسي والكاثوليكي، مؤمنين بأن زوال الدولة العثمانية سيعرّضهم من جديد لعسف لا يرحم

إثر تدمير الدولة الخزرية حوالي عام 985م، هاجر سلجوق بيك مع قبيلته إلى منطقة جند على نهر سيحون (كازاخستان) حيث أسلم هناك. ورغم تحوله إلى الإسلام، فإن أسماء أولاده الخمسة كانت مستوحاة من العهد القديم: ميكائيل، موسى، يوسف، يونس، وإسرائيل (أرسلان). ومن المفارقة أنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الوقت الحاضر، يهدد «الصهاينة» مستنداً إلى الإرث التاريخي لأحفاد آلب أرسلان وسلجوق بيك، مؤسسيّ السلالة السلجوقية.

ثم برز التداخل الثاني الكبير في مسار العلاقة بين الطرفين مع مطلع القرن السادس عشر، في عهد السلطان بيازيد الثاني، حين فرّ اليهود السفارديم من محاكم التفتيش والمذابح الكاثوليكية في إسبانيا قرابة 1492م، بعدما أصدر مرسوم الحمراء، ليشدّوا الرحال مجدداً نحو بلاد الأناضول، حيث وجدوا في مدن إسطنبول وبورصة وسالونيك ملاذاً جديداً. كانت الدولة العثمانية آنذاك في خضم صراعٍ مرير مع القوى الكاثوليكية في الغرب، والأرثوذكس الروس في الشمال، وكانت في أمسّ الحاجة إلى من يمتلك الخبرة في شؤون المال، والدبلوماسية، وجمع المعلومات.

بالمثل، وقف اليهود موقفاً داعماً بقوة للحكم العثماني، إذ رأوا فيه حصناً يحميهم من موجات الاضطهاد المسيحي المتكررة، بشقيها الأرثوذكسي والكاثوليكي، مؤمنين بأن زوال الدولة العثمانية سيعرّضهم من جديد لعسف لا يرحم. ومن هذا المنطلق، لم يكتفوا بالدعم الرمزي، بل ساهموا بفعالية في حركة التوسع العثماني، لا سيما في المراكز الكبرى للحضارة المسيحية، حيث لعبوا أدواراً اقتصادية وإدارية لافتة.

غير أنّ هذا الحضور البارز لم يكن بلا ثمن؛ فقد خلّف شعوراً بالمرارة والتوجس لدى قطاعات واسعة من الرعايا المسيحيين في السلطنة، كما أثار حفيظة العالم المسيحي الأوسع. وهو ما أشار إليه المؤرخ الأميركي ستانفورد ج. شو، معتبراً أن هذا التداخل بين اليهود والحكم العثماني كان أحد مصادر التوتر والصراع داخل النسيج المتعدد للسلطنة. وهو ما سيصل إلى ذروته في غمرة صعود موجات القومية المسيحية، اليونانية والارمنية، داخل الدولة العثمانية.

وقد بلغت تلك العلاقة أوجها في عهد السلطان سليمان القانوني، عبر نفوذ روكسلانا (هويّام)، والسيدة اليهودية كيرا، المعروفة أيضاً بـ«سترا»، التي لعبت دوراً بالغ الأثر في خدمة السلطانة الأم، وأسهمت إلى حد ما، إلى جانب هوّيام، في رسم ملامح السياسة داخل القصر العثماني في تلك الحقبة التي وصفت بأنها العصر الذهبي لليهود السلطنة العثمانية.

وبعد تشتيت القوات الانكشارية نحو عام 1828م، نشبت صراعات مالية شديدة داخل البلاط العثماني، حيث تنافست النخب الأرمنية مع العائلات اليهودية الأكثر ثراءً

اليهود والبلاط العثماني

امتدّ نفوذ النخبة اليهودية بعمق إلى صميم الاقتصاد العثماني، حيث برز دورهم في ميادين التجارة والصناعة والخدمات المالية. كما شغل عددٌ منهم مناصب إدارية رفيعة، وهو ما يؤكده أفيغدرو ليفي في مؤلفه المرجعي «اليهود السفارديم في الإمبراطورية العثمانية».

وقد برزت أسرة هامون السفاردية كإحدى الأسر اليهودية التي قدّمت خدمات بالغة الأهمية للدولة العثمانية خلال القرن السادس عشر، خاصة في ميادين المال والدبلوماسية، وبشكل خاص في علاقاتها مع السفراء الأوروبيين. وكان من أعلام هذه الأسرة موسى أمون، الذي منحه السلطان بايزيد الثاني إعفاءً دائماً من الضرائب له ولأحفاده، ومنذ ذلك الحين، أُطلقت على سلالته تسمية «أبناء موسى». هذه التسمية ألهمت الكاتب التركي إرجون بويراز لعنوان كتابه «أبناء موسى».

أما يوسف ناسي، أو ما يعرف بـ «جوزيف ناسي»، فكان من أبرز السفارديم الذين هاجروا من إسبانيا إلى الدولة العثمانية، وقد لعب دوراً محورياً في إدارة الخزانة، لا سيما في عهد السلطان سليمان القانوني، ومن بعده سليم الثاني، واستمر أثره في بدايات حكم مراد الثالث، جامعاً بين الحنكة الاقتصادية والنفوذ السياسي في واحدة من أكثر المراحل تعقيداً في تاريخ السلطنة.

ويوازيه في الأهمية، الدبلوماسي والمالي البارز سلومون أشكنازي، الذي نال تقديراً واسعاً على الصعيد الدولي، حتى أن الملكة إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا (1558–1603م)، خاطبت السلطان مراد الثالث في رسالة أوصت فيها باستخدامه، واصفةً إياه بالرجل الماهر الجدير بالثقة الذي يجب حمايته من الأعداء. ومع مرور الزمن، بدأ وهج العصر الذهبي يخفت، مع انحسار نفوذ الدولة العثمانية وصعود الانكشارية ذوي الأصول المسيحية إلى مراكز القوة والقرار. وقد تزامن ذلك مع تصاعد الضغوط الأوروبية والروسية ذات الطابع المسيحي خلال القرن الثامن عشر، ما انعكس سلباً، ولو نسبياً، على ازدهار الجماعات اليهودية ومكانتها داخل السلطنة.

لاحقاً، في القرن التاسع عشر، خلال فترة حكم السلطان الإصلاحي محمود الثاني (1808–1839م)، وبعد تشتيت القوات الانكشارية نحو عام 1828م، نشبت صراعات مالية شديدة داخل البلاط العثماني، حيث تنافست النخب الأرمنية مع العائلات اليهودية الأكثر ثراءً. ومن أبرز هذه الأسماء اليهودية: المصرفي البغدادي، جاباي، وموزع رواتب الانكشارية أجيمان، و مسؤول الخزانة في القصر، كارمونا، الذين تم إعدامهم جمعياً عام 1826م، بسبب التناقض مع نفوذ الأثرياء المسيحين الأرمن داخل القصر، ولم تكن نهاية العصر الحميدي بعيدة عن تأثير هذه التفاعلات المالية، حيث تولى محمد جاويد بك، الذي وُلِد في سالونيك، منصب وزير المالية في عهد الاتحاد والترقي ثلاث مرات حتى عام 1918م.

مع قيام الجمهورية التركية وانفصام الروابط التي كانت تربط الاقتصاد العثماني بالنفوذ الأرمني، أخذت البرجوازية اليهودية، وخاصة جماعة «الدونمة» تشقّ طريقها نحو الاندماج التدريجي مع نظيرتها التركية في صياغة ملامح اقتصاد الجمهورية الناشئة. وقد شكّل مؤتمر إزمير الاقتصادي عام 1923م، لحظة مفصلية في هذا التحوّل، بوصفه نقطة الانطلاق لتكوين تحالفات اقتصادية جديدة بين الدولة والنخب الصاعدة.

تجلّى هذا التداخل العميق في شخصيات وأسماء تركت بصماتها في المشهد الاقتصادي والثقافي: عائلة كوج التي أصبحت من أعمدة الثروة في تركيا الحديثة، وإسماعيل جيم إيبكجي الذي لمع اسمه في مجال السينما، وعائلة قبانجي التي رسّخت نفوذها في الإعلام.

كان سباتاي تسفي، مؤسس هذه الحركة، من مهاجري اليهود السفارديم، وقد أعلن نفسه نبياً، لكنه جوبه برفض حاسم من السلطان، محمد الرابع، مما دفع أتباعه إلى اتخاذ مسار خفيّ، تلوّن بالتقية، وعُرف لاحقاً في اللسان العثماني بـ«الدونمة»، أي «المرتدّون». لكن التسمية لم تكن مجرد وصف لحركة دينية مرتدة، بل كانت تعبيراً عن اندماج معقد بين الباطنية اليهودية والظاهرية الإسلامية

سابتاي تسفي والدونمة

وإذ جرى التلميح إلى جماعة الدونمة آنفاً، فإن الضرورة تفرض إماطة اللثام عن هذه الجماعة داخل كيان السلطنة العثمانية. فقد تزامن ظهورها على المسرح، مع بدايات تشكل ملامح سياق سياسي وإيديولوجي جديد، بدأ يتبلور ببطء مع بزوغ حركة سباتاي تسفي، التي وُلدت في مدينة إزمير عام 1650م.

كان سابتاي تسفي، مؤسس هذه الحركة، من مهاجري اليهود السفارديم، وقد أعلن نفسه نبياً، لكنه جوبه برفض حاسم من السلطان، محمد الرابع، مما دفع أتباعه إلى اتخاذ مسار خفيّ، تلوّن بالتقية، وعُرف لاحقاً في اللسان العثماني بـ«الدونمة»، أي «المرتدّون». لكن التسمية لم تكن مجرد وصف لحركة دينية مرتدة، بل كانت تعبيراً عن اندماج معقد بين الباطنية اليهودية والظاهرية الإسلامية، حيث نسج الأتباع عقيدتهم من خيوط التصوف اليهودي المعروف بالـ«قبّالة»، وأضافوا إليها من روحية الإسلام «التصوف الإسلامي» ما يتيح لهم البقاء في الظل.

يرى بعض الباحثين أن هذا المزج الماورائي لم يكن عابراً، بل كان له أثر وتأثير بعيد المدى في بعض الطرق الصوفية الإسلامية، كالنقشبندية والبكداشية والمولوية، حيث تسللت أفكار الدونمة وأسرارهم، شيئاً فشيئاً، إلى قلب التقاليد الروحية العثمانية. ومن هذا التفاعل المعقد، راكمت الجماعة نفوذاً إيديولوجياً تصاعد بمرور الزمن، وأصبحت مع الوقت رقماً يصعب تجاهله في معادلات السلطة والمجتمع.

بسبب التباين في تفسير تعاليم سابتاي، انشقت الحركة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، لاسيما في معقلها الأساسي في سالونيك. أولها الكاركاشية، التي تمثل الرؤية السلفية الإنغلاقية التي تمسكت بتقاليد الجماعة دون أدنى تساهل. ثم تأتي القبانجية، التي كانت تتأرجح بين السلفية والاعتدال، ممثلة بذلك حالة من التوازن بين التمسك بالقديم والانفتاح على الجديد. أما اليعقوبية، فقد دعت إلى الاندماج التام مع المجتمع التركي، مسعى للوصول إلى نوع من الوحدة الاجتماعية والثقافية.

لم يتردد الكاتب الكردي البارز موسى عنتر في التعبير عن انتقاده الصريح لما اعتبره دوراً خفياً لجماعة الدونمة في تشكيل هوية قومية مصطنعة تحت اسم «التركياتية». وقد عبّر عن هذا الموقف بوضوح في مقالاته وكتاباته قبل اغتياله. ويُرجّح أن هذا الموقف كان من بين الأسباب التي أدّت إلى استهدافه، في عملية يُعتقد أنها نُفّذت من قبل وحدة استخبارات الدرك التركي (JİTEM)، في مدينة ديار بكر عام 1992م

الدونمة واختراع التركياتية

سالونيك، تلك المدينة التي ستصبح مركزاً للجمعيات السرية، وعلى رأسها الاتحاد والترقي وفتاة التركية فيما بعد، كانت على موعد مع دور محوري في عصر نشوء الهويات القومية واتجاهات التجانس، جنباً إلى جنب مع تطور الدراسات العرقية. فقد تزامن صعود هذه المدينة مع التحولات الكبرى التي شهدتها الدولة العثمانية، التي سعت من خلالها إلى تنفيذ إصلاحات تهدف إلى تمهيد الطريق لدمجها في السوق العالمي الرأسمالي. هذا التغيير الكبير كان جزءًا من التحولات العالمية العميقة التي طالت معظم مناطق العالم في تلك الحقبة.

في هذه اللحظة المفصلية، كان سؤال الهوية قد استحال هاجساً ضاغطاً، يشغل عقول المستشرقين وروّاد الإصلاح، وسط سعي محموم لمواءمة الذات مع إيقاع التحوّل الرأسمالي المتسارع. وإذا ما تتبّعنا – ولو نسبياً – مسار التكوّن الإيديولوجي للقومية التركية، فإننا نقف عند وثيقة مبكّرة أرست اللبنات الأولى لفكرة وحدة الشعوب التركية تحت راية الطورانية، والمتمثّلة في كتاب «رحلة في وسط آسيا» للمستشرق الهنغاري اليهودي أرمنيوس فامبيري، الصادر عام 1865م. لم يكن فامبيري مجرد باحث عابر، بل مستشاراً غير رسمي في بلاط السلطنة، ويداً خفية تعمل في آن معاً لحساب المخابرات البريطانية، في مشهد يعكس تواشج المصالح الاستراتيجية والثقافية في لحظة ولادة الطورانية كفكرة وكمشروع.

في حين، شكلت رواية المستشرق اليهودي الفرنسي ليون كوهين «العلم الأزرق» (1877م) مصدر إلهام رئيسي للتيار القومي التركي في الدولة العثمانية، في حين أن عمله التاريخي مقدمة في تاريخ آسيا: الأتراك والمغول من الأصل حتى 1405م» الذي نُشر في عام 1896م، كان له تأثير بالغ على مؤرخي القومية الطورانية في فترة الجمهورية. وكان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، من القراء المتحمسين لكوهين.

بدوره، قدّم موسى كوهين، الذي عرف لاحقاً باسم مونيس تكين آلب، وهو من يهود الدونمة في سالونيك، تصوراً راديكالياً للهوية التركية من خلال كراسته الشهيرة «التتريك». دعا فيها إلى صهر جميع المكونات القومية والدينية في الدولة العثمانية في قالب هوية تركية واحدة. وقد شارك بعد ذلك في حملة «أيها المواطن، تكلّم بالتركية» عام 1928م، وهي حملة مثيرة للجدل، رآها الكثيرون محاولة ممنهجة لمسح الهويات القومية غير التركية، وعلى رأسها الهوية الكردية.

تبعاً لهذه الخلفية، لم يتردد الكاتب الكردي البارز موسى عنتر في التعبير عن انتقاده الصريح لما اعتبره دوراً خفياً لجماعة الدونمة في تشكيل هوية قومية مصطنعة تحت اسم «التركياتية». وقد عبّر عن هذا الموقف بوضوح في مقالاته وكتاباته قبل اغتياله. ويُرجّح أن هذا الموقف كان من بين الأسباب التي أدّت إلى استهدافه، في عملية يُعتقد أنها نُفّذت من قبل وحدة استخبارات الدرك التركي (JİTEM)، في مدينة ديار بكر عام 1992م.

تحت وطأة النزعة العرقية النقية، أطلّت للمرة الأولى إلى العلن تساؤلات حذرة ثم جريئة، حول الأصول الخفية لجماعة الدونمة ودورها في صياغة الهوية القومية التركية. تلك النقاشات، التي كانت تُهمَس في المجالس الضيقة، ما لبثت أن تصدّرت جلسات البرلمان التركي وصدور الصحف بعد إعلان الجمهورية، كما يشير الباحث مارك ديفيد باير في كتابه «ارتداد الدونمة والقومية العلمانية التركية».

بوجه هذا الواقع، انبثقت فكرة «التتريك» ومشروع الجمهورية العلمانية المتشددة كسلاح بديل، وهوية مغايرة، أتاحت لأبناء جماعة الدونمة البقاء في المشهد العام دون أن تُثار حولهم أسئلة الانتماء أو الولاء. وقد عبّر عن هذه الرؤية بوضوح الصحفي أحمد أمين يالمان، ذو الأصول الدونمية، الذي كان على تماسّ فكري وسياسي مع مصطفى كمال أتاتورك وضياء غوك آلب، ومنخرطاً في صفوف جمعية «تركيا الفتاة»، ومؤسساً لجريدة الوطن.

بينما لا توجد دلائل قاطعة تثبت انتماء مصطفى كمال أتاتورك إلى جماعة الدونمة، إلا أن تخرّجه من مدرسة شمسي أفندي في سالونيك، وهي مؤسسة تعليمية ذات صلة وثيقة بالجماعة، يثير تساؤلات حول محيطه الفكري والاجتماعي. في تلك المرحلة، كان إلى جانبه عدد من الشخصيات البارزة المنتمية صراحة إلى الدونمة، مثل طلعت باشا، وإيمانويل قارصوه، والدكتور ناظم، أحد القياديين البارزين في جمعية الاتحاد والترقي، إلى جانب محمد جاويد بك، وتوفيق رشتو آراس، الذي سيشغل لاحقًا منصب وزير الخارجية في عهد الجمهورية الأولى.

هؤلاء جميعاً، شكلوا نواة لجماعة هجينة تبنّت الهوية التركية المستحدثة، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا إلى أقصى مداها، فكانوا – كما يقال – أكثر «تتريكاً» من الأتراك أنفسهم، لا سيما في ترويجهم لمفهوم «التركياتية» بوصفه قالباً ثقافياً وقومياً صارماً. في هذا السياق، يُستعاد تشبيه حنّا أرندت، حين وصفت بعض يهود أوروبا بأنهم حاولوا الاندماج في البنى القومية المهيمنة بشكل مبالغ فيه، متجاوزين حتى أبناء تلك القوميات ذاتها. وبهذا المعنى، تقاطع خطاب الدونمة مع رؤية جماعة «تركيا الفتاة»، في سعيهما لابتكار تركياتية ضيقة، أقرب إلى عقيدة لاهوتية جامدة، تتعارض مع الهوية العثمانية المرنة متعددة المشارب التي كانت قائمة قبلها.

تحديداً هنا، تلتقي خيوط الحكاية مع ما أجمع عليه معظم أعضاء جمعية «تركيا الفتاة»، تلك الجماعة التي صاغت، بمزيج من الطموح والإيديولوجيا، معالم ما سيُعرف لاحقًا بـ«التركياتية البيضاء». الهوية النخبوية الجديدة التي رسمت ملامح الجمهورية الوليدة.

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.