مصطفى عبدي
في الخامس من أبريل، اعتقل الأمن العام التابع لسلطات دمشق، 21 عضواً من حزب «الانتماء الوطني الديمقراطي» على حاجز في ريف حمص، بينهم نساء ورئيس الحزب، أثناء توجههم إلى الرقة لحضور منتدى «تماسك»، وأُفرج عنهم بعد 17 ساعة من التوقيف. وحسب شهادات الموقوفين، فقد تعرضوا، وهم من الطائفتين الدرزية والعلوية، للتعذيب الجسدي والنفسي خلال احتجازهم في سجن حارم بإدلب، حيث تم فصلهم طائفياً، وأُطلقت النار على قدم أحدهم.
وعقب وساطة قادها محافظ السويداء، مصطفى البكور، المحسوب على سلطات دمشق الحالية، جرى تسريب مقطع مصوَّر إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر فيه الناشطة السورية غادة الشعراني وهي في حالة انفعالية حادة، تصرخ في وجه البكور داخل مكتبه، بحضور عدد من الأشخاص. وقد عُدّ هذا المشهد، من منظور رمزي، لحظة فارقة جسّدت التوتر القائم بين السلطة والمجتمع، حيث بدا البكور ممثلاً لهيكل السلطة المحلية، في مقابل خطاب احتجاجي لم تجد له قناة تعبير مؤسسية سواء« الاحتجاجي الهستيري».
هذا التسجيل المصوَّر لم يمرّ دون تداعيات، إذ سرعان ما أطلق جدلًا محتدماً على المنصات الرقمية، تراوحت مواقف المتفاعلين معه بين المطالبة بمعاقبة الشعراني وسجنها، وبين من عمد إلى وصمها بنعوت أخلاقية تنتمي إلى سرديات نمطية حول «المرأة الفاجرة» التي أنتجتها تداعيات الحرب السورية. وهو ما يعكس، في جوهره، اشتغال ماكينة خطاب الكراهية والإقصاء كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة على المجال العام، لا سيما حين يتقاطع الصوت النسوي مع تحدي السلطة.
يمكن تأويل الهستيريا بأنها الشكل الأخير الممكن للتعبير، أي الصرخة الأخيرة التي تُطلقها الذات حين تُحاصَر بالكامل وتُجرَّد من أدوات المقاومة التقليدية
من بين أكثر النعوت تكراراً في الخطاب الرقمي الذي استهدف الناشطة غادة الشعراني، برز توصيفها بـ«الهستيرية»، توصيف ينطوي على دلالات نفسية وسياسية معقدة، إذ يُستَخدم هنا ليس فقط للإشارة إلى فقدانها للاتزان، بل لتجريدها من عقلانيتها وشرعنة إقصائها من الحيّز العام. فالمصطلح يُوظف، ضمنياً، لنفي أهليّتها السياسية، بوصفها لا تنسجم مع معايير «السلوك المقبول» الذي تفرضه البنى السلطوية القائمة.
من هذا المنظور، قد يكون من المجدي، ولو من موقع نقدي، أن نقبل توصيف فعلها بـ«الهستيري»، لا من باب الإدانة، بل كفعل احتجاجي جذري يتجاوز حدود المسموح به في نظم القمع. ففي ظل السياق السوري الذي أطاح بكل أطر التعبير السلمي، نتيجة الحرب وتحوُّل الهيمنة من ديكتاتورية بعثية إلى سلطة فصائلية مسلّحة ذات خلفيات جهادية، لم يعد هناك متّسع للرفض المؤسسي أو الاحتجاج القانوني. لذا، فإن ما يُوصَف بالهستيريا في هذا الإطار، يمكن تأويله بوصفه الشكل الأخير الممكن للتعبير، أي الصرخة الأخيرة التي تُطلقها الذات حين تُحاصر بالكامل وتُجرّد من أدوات المقاومة التقليدية.
إنّ ما يجب مساءلته إذن ليس فعل «الهستيريا» ذاته، بل النظام الذي لم يُبقِ للناس، لا سيما النساء، سوى هذا الفعل الحدّي، للتعبير عن حضورهن، ورفضهن، وحقهن في الاعتراض.
عملياً، أدّى تحوّل الاحتجاجات المدنية إلى نزاع مسلّح، وما رافقه من عنف ممنهج شمل القتل والسجن والاختفاء القسري والتعذيب المفرط، إلى تقويض شبه تام لأي إمكانية للاحتجاج السلمي. وقد أُقصي الصوت المعارض، فرداً كان أم جماعة، من الفضاء العام، ما أفضى إلى غياب البدائل السلمية للتعبير عن الرفض إزاء واقع يسوده القمع والظلمة. وضمن هذا المناخ العدمي، ظهرت سلوكات اتسمت بـ«اللامبالاة» كاستجابة دفاعية منهزمة أمام وطأة الواقع العنيف؛ وهي لامبالاة لم تَعُد تعبّر عن الجفاء أو التهاون بقدر ما غدت آلية للبقاء اليومي.
في هذا السياق العدمي، لم تَعُد اللامبالاة مجرّد موقف دفاعي انهزامي فحسب، بل تحوّلت، في بعض تمظهراتها، إلى ما يشبه «فناً للعيش» أو نمطاً يُروَّج له بوصفه شكلاً من أشكال الحكمة أو النجاة الشخصية. وهكذا، أصبح أبسط تعبير متصل بهذا «الفن»، سواء أكان منشوراً مكتوباً أم محتوى مرئياً، يحمل جاذبية لافتة لدى شرائح واسعة من السوريين، لا لأنه فعل احتجاجي واضح، بل لأنه يمثل تمرّداً هادئاً أو تهكمياً ضد العبث والبطش، بل وربما لأنه يُتيح للناس مساحة رمزية للتمسك بما تبقّى من الذات (القدرة على الفعل) في واقع يضيق بخيارات الاعتراض.
يمكن قراءة صرخة الشعراني، لا باعتبارها انفعالًا فردياً –كما يحب النظام ترويجه-، بل كتجسيد لرفض صريح لاحتكار التمثيل والقيادة من دون تفويض، ولتبرير الانتهاكات تحت مظلة «الشرعية الثورية»
بخلاف اللامبالاة، يقدّم عالم التحليل النفسي الفرنسي، جاك لاكان، تأويلاً مغايراً حول مفهوم الهستيريا، إذ يرى فيه أن الهستيريا هي موقع رمزي يقف في مواجهة السلطة، يزعزع شرعيتها، ويعيد مساءلتها. فالهستيري، وفق لاكان، لا يسعى إلى العلاج بقدر ما يطرح سؤالاً وجودياً موجهاً إلى من يحتكر سلطة الخطاب: من منحك هذه السلطة؟ ومن خوّلك أن تنطق باسم الحقيقة؟.
يمكن قراءة صرخة الشعراني، لا باعتبارها انفعالًا فردياً –كما يحب النظام ترويجه-، بل كتجسيد لرفض صريح لاحتكار التمثيل والقيادة من دون تفويض، ولتبرير الانتهاكات تحت مظلة «الشرعية الثورية». لقد نطقت، في لحظة مكثفة، بما يتردد همساً في ضمير جمعي خائف: من حرر الوطن لا يحق له استعباده، ومن واجه الديكتاتور لا يجوز أن يتحول إليه.
لم تكن الشعراني مجرد امرأة غاضبة؛ بل كانت مرآة تعكس كرامة مجتمع مُهان، يرزح تحت أثقال القمع المتجدد بأسماء مختلفة. وفي مواجهتها تلك، اصطدمت مرة أخرى بالمعادلة المتكررة في التجربة السورية: متى يسدل الستار فعلياً على زمن الطغيان، لا فقط بتغيير الوجوه، بل بتغيير البنية نفسها؟
لطالما كان فعل التغيير مكبوتاً تحت وطأة عنف السلطة، إذ لا خيار في ظلّ الظروف الراهنة التي نعيشها في سوريا سوى الاحتجاج في صورته الهستيرية، لكشف المستور وتعريّة النظام، ونزع الأقنعة عن جبروت القمع الذي يستهدف حرية التعبير.
فمنذ سقوط الأسد، أُغلقت كل الأبواب في وجه أي فعل سلمي أو احتجاج مدني، في حين تستمر الانتهاكات بجميع أشكالها، الإنسانية منها والحقوقية، دون توقف. وعليه، تغدو الهستيريا فعلًا من أفعال المقاومة، في مواجهة التسلّط وكتم الأصوات، وسعياً لفضح ما يخفيه النظام الحالي، لا سيما في السجون. وهذا تحديداً ما أثار موجة من خطاب الكراهية، الذي شنّ هجوماً غرائزياً على غادة الشعراني.
مصطفى عبدي: كاتب وصحفي سوري، أسّس عدة مواقع إعلامية، وعمل على توثيق الانتهاكات خلال سنوات الحرب في سوريا.