نورهات حفتارو
في العاشر من مارس الماضي، وبشكل مفاجئ، وقع كلٌّ من القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، ورئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، اتفاقاً من ثماني نقاط، وسط ترحيب إقليمي ودولي. جاء هذا الاتفاق في ظل حالة من الضبابية التي تخيم على المشهد السوري، حيث تتواصل المجازر في الساحل، ويتصاعد التنافس الإسرائيلي والتركي على النفوذ في البلاد، ضمن مشهد معقد تتشابك فيه العوامل الإقليمية والدولية.
وبين التشاؤم العميق الذي فرضته سنوات الحرب السورية، والتي وصفها العديد من المسؤولين الدوليين بـ«مذبحة القرن»، والتفاؤل الرومانسي الذي يبدو بعيد المنال، تبرز هذه التفاهمات كضرورة سياسية ومرحلية بالنسبة للطرفين.
المصيدة الكردية
لفهم هذه التفاهمات الأخيرة، لا بد من التطرق إلى السياق التاريخي والسياسي للقضية الكردية. قبل مئة عام، ومع تشكيل الدول القومية في الشرق الأوسط على يد بريطانيا وفرنسا، برزت القضية الكردية كنتيجة لمحاولات الأنظمة القومية دمج الكرد في «الأمم المتخيلة» حديثة النشأة، إما من خلال سياسات الصهر القسري أو عبر الإبادة الجسدية. ومنذ ذلك الحين، تحولت القضية الكردية إلى ورقة ضغط رئيسية في لعبة الابتزاز الإقليمي التي تديرها القوى الكبرى، حيث استُخدمت لتطويع كلٍّ من تركيا والعراق وإيران وسوريا وإخضاعها لمعادلة «فرّق تسد».
بهذه الطريقة، نشأت ما يمكن تسميته بـ«المصيدة الكردية»، وأدت إلى تأجيج الأزمات والحروب، وعدم الاستقرار في المنطقة. غير أن النضال الكردي، سياسياً وعسكرياً، بالإضافة إلى التحولات في النظام الدولي والإقليمي، فرض واقعاً جديداً جعل استمرار هذه المعادلة مكلفاً للغاية. وأمام هذا الواقع، لم تعد هذه الدول تملك سوى خيار واحد للخروج من دائرة الابتزاز الإقليمي: تبني حل سياسي دستوري وديمقراطي ينهي المأزق التاريخي الذي وُضعت فيه المنطقة.
وفي ظل التحولات التي يشهدها النظام الدولي، وتفكك منظومة العولمة، ومحاولات اليمين المتطرف الإسرائيلي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، دخلت القضية الكردية إلى مرحلة جديدة لاسيما بعد «نداء السلام والمجتمع الديمقراطي» الذي أطلقه السيد أوجالان في السابع والعشرين من فبراير الماضي.
اليوم، يجري الحديث عن مفهوم «البراديغما الجديدة» أو «القرن التركي الجديد»، الذي يعكس تحولاً في الاستراتيجية التركية، بحيث تصبح الدولة التركية أيضاً دولة الكرد، وتتبنى نهجاً أكثر تصالحاً معهم، معتبرةً الكرد خارج حدودها حلفاء بدلاً من اتباع سياسة العداء التقليدي غير المجدي، ولكن تبقى الشكوك قائمة حول آليات تطبيق هذا النهج
نداء السلام وانعكاسه على السياق السوري
في خطوة غير متوقعة، دعا أوجالان حزب العمال الكردستاني إلى إنهاء الكفاح المسلح وحلّ نفسه، في إطار ما يمكن وصفه بالسياسة العملية القائمة على «البراغماتية المبدئية»، التي تعني التكيف مع المستجدات السياسية مع الحفاظ على المبادئ الأساسية. تأتي هذه الدعوة في ظل تحولات كبرى يشهدها الشرق الأوسط، حيث انهارت التوازنات الإقليمية، وتراجعت قوة إيران وحلفائها، كما تعرض حزب الله اللبناني وحركة حماس لتصفية شاملة، وسقط نظام الأسد، في وقت فقدت فيه المنطقة مظلة القانون الدولي بعد حرب غزة.
في هذا السياق، جاء نداء السلام ليشكل تحولاً جذرياً وعملياً مشتركاً بين الدولة التركية وإمرالي، بهدف تجنب التداعيات الناجمة عن الأوضاع المتغيرة في المنطقة. فمن المعلوم أن إسرائيل تسعى إلى فرض هيمنتها بالقوة وإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما دفع القادة الأتراك إلى إعادة النظر في سياساتهم تجاه الكرد، سواء داخل تركيا أو خارجها. وتخشى تركيا أن تؤدي التحولات التي تفرضها إسرائيل بالقوة إلى تهديد بنية الدولة التركية ووحدة أراضيها. حيث تدفع إسرائيل نحو نظام متفتت قائم على الكيانات العرقية والطائفية في سوريا ما يثير مخاوف تركيا، بينما تدعم تركيا النظام المركزي السني. ومع ذلك، يظل كلا النموذجين عاجزين عن تقديم حلول عملية للوضع السوري.
اليوم، يجري الحديث عن مفهوم «البراديغما الجديدة» أو «القرن التركي الجديد»، الذي يعكس تحولاً في الاستراتيجية التركية، بحيث تصبح الدولة التركية أيضاً دولة الكرد، وتتبنى نهجاً أكثر تصالحاً معهم، معتبرةً الكرد خارج حدودها حلفاء بدلاً من اتباع سياسة العداء التقليدي غير المجدي، ولكن تبقى الشكوك قائمة حول آليات تطبيق هذا النهج.
انعكست هذه المبادرة بشكل مباشر على المشهد السوري، حيث أعلن قائد قسد أن أوجالان أرسل لهم عدة رسائل، وهو ما كان له تأثير مباشر على المفاوضات بين قسد ودمشق. وتشير المعطيات إلى أن بعض بنود الاتفاق، لا سيما البندين الأول والثاني، تمت صياغتها بروح تتماشى مع نداء السلام والمجتمع الديمقراطي.
حظي اتفاق الشرع-عبدي بدعم تركي ضمني وترحيب علني، تجلى في سلسلة من التصريحات الصادرة عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية هاكان فيدان، بالإضافة إلى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي. ويعكس هذا الترحيب تحولاً جديداً في نهج تركيا تجاه القضية الكردية في سوريا والمنطقة.
البنتاغون «راعي الاتفاق»
وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال مايكل كوريلا، عقد اجتماعاً مع الجنرال مظلوم عبدي في الحسكة، وذلك قبل أيام قليلة من توقيع الاتفاق بين قسد ودمشق. يسلط هذا اللقاء الضوء على الدور المحوري الذي لعبته الولايات المتحدة في التمهيد لهذا الاتفاق، خصوصاً في ظل التغيرات التي شهدتها الساحة السورية بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر الماضي.
منذ ذلك الحين، دفعت المؤسسة العسكرية الأمريكية قسد نحو التفاوض مع «هيئة تحرير الشام»، كما توسطت لعقد عدة لقاءات بين عبدي والشرع. ويبدو أن البنتاغون لعب دوراً حاسماً في تسهيل الوصول إلى هذا الاتفاق، مما جعله أمراً واقعاً أمام الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو ما قد يساعد واشنطن في تحقيق عدة أهداف. وبالفعل، بعد يومين من توقيع الاتفاق، أصدرت السفارة الأمريكية في سوريا ووزارة الخارجية الأمريكية بيانات ترحيب، أثنت فيها على الاتفاق. ومن المحتمل أن يكون الهدف الأساسي للبنتاغون هو تجنب سيناريو مشابه للانسحاب الفوضوي من أفغانستان، لا سيما في ظل الغموض الذي يحيط بسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن بقاء القوات الأمريكية في سوريا.
إلى جانب ذلك، يسعى الجيش الأمريكي إلى ضمان استمرار عملياته العسكرية ضد تنظيم داعش دون عوائق، إضافة إلى التحضير لأي مواجهات عسكرية محتملة مع إيران.
يبدو أن المرحلة الراهنة تفرض نوعاً من «اتفاقيات الضرورة» بين الطرفين، حيث يحاول كل منهما تحقيق توازن دقيق بين مصالحه السياسية والعسكرية، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية والدولية
اتفاق الضرورة
بناء على ما سبق، فإن هذه التفاهمات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ«اتفاق الضرورة»، حيث تمثل حاجة عملية لكل من شمال وشرق سوريا وسلطة دمشق. وتوج ذلك بالاتفاق المبرم بشأن الأحياء الكردية في حلب في الأول من نيسان الجاري، المؤلف من 14 بنداً، بالإضافة إلى وقف إطلاق النار بين قسد والجيش التركي في سد تشرين وعلى كامل الحدود التركية السورية.
في ظل هذا المشهد المعقّد، يبدو أن قادة شمال وشرق سوريا يتّبعون استراتيجية متعددة المسارات، تجمع بين التفاوض مع دمشق، والتطبيق التدريجي للاتفاق وفق صيغة «خطوة مقابل خطوة»، من جهة، والدفع نحو التحول الديمقراطي عبر بناء التوافقات السياسية مع مختلف القوى الوطنية السورية في الداخل والخارج من جهة أخرى. ومن الواضح أن قوات سوريا الديمقراطية لا مصلحة لها في الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع دمشق، ومن خلفها تركيا، إذ سيكون ذلك بمثابة انتحار سياسي وعسكري.
يسعى قادة شمال وشرق سوريا إلى الحفاظ على خصوصية مؤسساتهم الإدارية والأمنية والعسكرية في إطار عملية الدمج مع دمشق، وذلك من خلال فرض نمط من «الديمقراطية المحلية القائمة على الأمر الواقع»، فلا المركزية الصارمة ولا الفيدرالية ممكنة في الوضع السوري الحالي. أما فيما يتعلق بملف سجون مقاتلي تنظيم داعش والمخيمات، فيُفضّل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إبقاء هذه المسؤولية بيد قسد في الوقت الراهن، وذلك لأسباب عملية ولوجستية، بحسب مصادر خاصة لموقع «أمارغي سكوب». وحتى هذه اللحظة، لا يوجد أي اتفاق نهائي حول إدارة المعابر، والمطار، والمخافر الحدودية.
ووفقاً لمصادر مطّلعة، يُعدّ الاتفاق بشأن الأحياء الكردية في حلب «خطوة تجريبية» تهدف إلى بناء الثقة بين الأطراف، ويُتوقّع الإعلان عن اتفاقيات جديدة بخصوص عودة أهالي «عفرين» و«سري كانيه»، بضمانات أمنية من دمشق
وحتى تاريخ نشر هذه المادة، عُقد لقاء وحيد بين اللجنة المكلّفة من دمشق، برئاسة حسين السلامة، وبين قائد قسد مظلوم عبدي، وذلك في مدينة الحسكة، حيث جرى نقاش عام حول عدد من النقاط، وتم الاتفاق على تشكيل لجان فرعية للعمل المشترك.
وقد وصفت إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، الاتفاق بين قسد وسلطة دمشق بأنه «اتفاق عام»، مضيفةً أنه «سيتم تشكيل لجان من ممثلي مكونات المنطقة، وستكون لجاناً مدنية وسياسية».
وفي سياق متصل، نشر الدكتور وليد فارس، مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لشؤون العلاقات الخارجية، منشوراً عبر منصة «تويتر»، أفاد فيه بأن «قوات سوريا الديمقراطية» تُجري مناورات عسكرية مشتركة مع «جيش سوريا الحرة» المتمركز في منطقة التنف، وذلك في شرق محافظة حماة، وبدعم جوي من قوات التحالف الدولي، بهدف ملاحقة خلايا تنظيم داعش. وقد وصف فارس هذه المناورات بأنها «رسالة أمريكية مفادها أن قوات التحالف تتحمل مسؤولية أمن البادية السورية».
في الجانب الآخر، تواجه دمشق معادلة صعبة، إذ إن أي مواجهة مفتوحة مع «قسد» ستكون مكلفة في ظلّ الأزمات الداخلية والعقوبات الدولية، بالإضافة إلى الضغوط الغربية وسياسات «مراقبة السلوك». كما أن وجود التحالف الدولي في شرق الفرات يفرض قيوداً إضافية تمنع دمشق من التصعيد العسكري.
لأول مرة في التاريخ الحديث للمنطقة، يسيطر تنظيم ذو خلفية أصولية جهادية على الحكم في سوريا. وفي ظلّ هذا الواقع الجديد، يظلّ مستقبل السلطة الحاكمة في دمشق غير واضح المعالم.
في المقابل، تقدم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نموذجاً مختلفاً قائماً على التعددية والتنوع، مع توجه ديمقراطي يعزز حرية المرأة، ويدعم المجتمع الديمقراطي، ويؤسس لدولة دستورية تقوم على المواطنة المتساوية. وبينما تطرح هذه الرؤية كبديل محتمل، لم تظهر الحكومة الجديدة في دمشق أي مؤشرات على تغيير حقيقي في نهجها، إذ لم تجرِ أي مراجعات أيديولوجية أو فكرية جذرية. ولا تزال السياسات الإقصائية مستمرة، وهو ما يتجلى في الإعلان الدستوري المؤقت الأحادي، الذي لا يعكس التنوع السوري، إلى جانب استمرار هيمنة حكومة أحادية اللون والفكر، فضلًا عن المجازر المتواصلة في الساحل السوري، مما يعكس استمرارية النهج السلطوي. كما أن الخطابات الرنانة حول «الخبراء» و«الحوكمة» تأتي في إطار التجميل الإعلامي دون إحداث تغييرات جوهرية في بنية الحكم.
بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن المرحلة الراهنة تفرض نوعاً من «اتفاقيات الضرورة» بين الطرفين، حيث يحاول كل منهما تحقيق توازن دقيق بين مصالحه السياسية والعسكرية، في انتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية والدولية، وخاصة تلك المتعلقة بالداخل التركي فيما يخص المؤتمر المرتقب لـ«حزب العمال الكردستاني» للإعلان عن حل نفسه.
نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.