نورهات حفتارو
في مشهد لافت من المسلسل السوري «تحت سابع أرض»، الذي عُرض ضمن الموسم الرمضاني 2025، يتقمص الممثل تيم حسن دور الضابط «موسى»، الذي يجد في مركز الأمن الجنائي المهجور، وسط مبانٍ مدمرة وبيوت مهدومة بفعل الحرب، المكان الأمثل لطباعة «الدولار المزوّر». في هذه اللوحة الدرامية، فوق أنقاض الحرب، تتجسد صورة مجتمع متفكك، تحول إلى أطلال خاوية، حيث تبرز رمزية المال وسطوته، بوصفه الغاية المطلقة، في عالم فقد قيمه، كما يتجلى في ذلك المركز المهجور، رمزية دولة منهارة، غائبة ومنزوعة السيادة.
إنّ هذا العمل الدرامي قدّم، ولو بلمحات متواضعة، انعكاسات لما تمرّ به الحالة السورية من انهيار وتفكك. إذ تعيش البلاد أحد أعنف أشكال نزع السيادة في التاريخ المعاصر. في هذا الإطار، قد تُسهم أطروحة الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في إضاءة طبيعة التدخل الإمبريالي الحديث في الشرق الأوسط وأفريقيا، بوصفها إطاراً مفاهيمياً لفهم آليات نزع السيادة.
فوفقاً لباديو، لا تُدمّر الدول وتُفكَّك فقط بهدف فرض الهيمنة المباشرة، بل تُستبدل بأنماط من «المناطق منزوعة السيادة»، تُترك في حالة استثنائية، منفلتة وفوضوية، وتقع تحت سيطرة مليشيات مسلّحة. ويؤدي هذا إلى تحويلها إلى فضاءات مفتوحة للنهب المنظّم. وعليه، تفضّل الشركات العابرة للقارات، ووكلاء رأس المال، وكارتيلات تمويل المنظمات غير الحكومية، الدخول في تفاهمات مباشرة مع هذه المليشيات، بدلاً من التعامل مع الدول القومية، بما يتيح لها تحقيق مصالحها بأقل ما يمكن من العوائق السياسية والقانونية.
أُعيد تشكيل السكان بوصفهم «كتلاً بشرية» مفككة تُدرّ الربح، يتم استغلالها في ميادين القتال، ونهبها تحت غطاء المساعدات الخارجية أو عبر التجنيد القسري، مما أسّس لحالة من الفوضى المستدامة وانعدام الاستقرار، وانتهى بانهيار الدولة وتفكك البنية المجتمعية
فقدان السيادة في السياق السوري
إذاً، ماذا يعني فقدان السيادة ضمن الواقع السوري؟ تعني السيادة، بمفهومها الحديث، قدرة الدولة على فرض نظامها على بقعة جغرافية محددة، بعد اكتساب شرعية داخلية عبر عقد اجتماعي توافقي مع المجتمع، واعتراف خارجي باستقلالها. لكن لا تقتصر السيادة على القواعد القانونية المكتوبة التي تمثل حضور الدولة فقط، بل تشمل أيضاً السيادة المجتمعية في بعدها الرمزي والأخلاقي، أي تلك القواعد غير المكتوبة التي تنظم الحياة اليومية للأفراد والجماعات.
غير أنّ السيادة في سوريا، كما هو الحال في معظم الدول القومية في الشرق الأوسط، قد تشكّلت بصورة مشوّهة، سواء عبر هندسة الاستعمار الفرنسي أو من خلال وكلائه المحليين فيما بعد. إذ إنّ أدوات السيادة التي جرى ترسيخها لم تأخذ في الحسبان مبدأ الشرعية الشعبية، بل سعت، على العكس، إلى تطويق المجتمع من خلال تضخيم الإيديولوجيا القومية الأحادية، بشقّيها «العلماني» و«الإسلاموي» المُخترع. بمعنى أن السيادة في هذا السياق تشبه تماماً فكرة المنظر الألماني، كارل شميت، التي ترتبط باتخاذ قرار ديكتاتوري في حالة الطوارئ، مع الفارق أن الاستثناء في فكر شميت تحول إلى حالة دائمة في الواقع السوري منذ نشوئه.
وقد تم توظيف السيادة من خلال احتكار أجهزة الدولة وأدواتها العنفية لإقصاء «العدو الداخلي» وفقاً لشميت، والعدو في هذه الحالة، كان يمثل التنوع السوري. حيث تم العمل على تنميط وتدجين المجتمعات السورية ضمن قالب «السيادة القومية الأحادية».
على هذا الأساس، جرى تحويل الدولة إلى «كيان أوليغارشي» قائم على الاستغلال، والنهب، والسمسرة. وبذلك، لم تتحرّر هذه البُنى من أدوات الهيمنة الاستعمارية، بل أعادت إنتاجها وتطويرها، بأشكال أكثر تعقيداً وعمقاً مع مرور الزمن.
ولكن رغم العنف الممنهج، حافظت الدولة القومية السورية على توازن هش، إما عبر توافقات شكلية مع المجتمعات المحلية أو بالقمع المباشر من خلال الأجهزة الأمنية. غير أنّ عملية نزع السيادة الفعلية بدأت بالتحديد مع انطلاق موجة «الربيع العربي» قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. حيث أصرّت الطغمة الحاكمة في دمشق على احتكار مفهوم السيادة، ورفضت تقاسمه أو التفاوض عليه مع الحراك الاحتجاجي السوري. ومع غياب أي حلول سياسية توافقية، انزلقت البلاد تدريجياً نحو حرب أهلية مدمّرة.
وقد أدّى ذلك إلى تفكك مفهوم السيادة، ليس فقط من خلال الانهيار الداخلي، بل أيضاً عبر استدعاء هستيري للتدخلات الخارجية من قِبل كلا الطرفين، النظام والمعارضة على حد سواء. ونتيجة لهذا المسار، خسرت المجتمعات السورية ما تبقّى من سيادتها الرمزية وغير المكتوبة، إذ تحوّلت البلاد إلى ساحة مفتوحة لصراعات بين مليشيات المعارضة وعصابات الدولة.
وسط هذا المناخ، أُعيد تشكيل السكان بوصفهم «كتلاً بشرية» مفككة تُدرّ الربح، يتم استغلالها في ميادين القتال، ويُستثمر في بؤسها تحت غطاء المساعدات الخارجية أو عبر التجنيد القسري، مما أسّس لحالة من الفوضى المستدامة وانعدام الاستقرار، وانتهى بانهيار الدولة وتفكك البنية المجتمعية. حتى باتت الكارثة السورية، من فرط تعقيدها وتشظّيها، عصيّة على التصنيف أو الإحاطة، إلى درجة لم تعد معها علوم الإحصاء، بمختلف أدواتها ومنهجياتها، قادرة على قياس حجم المأساة المستمرة حتى اللحظة.
تفكك الدولة السورية
بعد أكثر من عقد من الصراع السوري، الذي بدأ كثورة وتحول إلى حرب أهلية وصراع إقليمي ودولي، باتت سوريا دولة منهارة على كافة الأصعدة. عقب سقوط نظام الأسد، تسارعت وتيرة الانهيار في ظل فراغ مؤسساتي شامل وتصاعد غير مسبوق لخطاب الكراهية. وقد انهارت البنية التحتية للدولة بشكل كامل، سواء على المستوى المادي أو البشري. وفي هذا السياق، تحوّلت غالبية مليشيات المعارضة-المتهمة بارتكاب جرائم حرب والمدرجة على لوائح الإرهاب الدولية-إلى القوى الممسكة بزمام السلطة في الدولة المنهارة.
ومن أوائل أفعال هذه السلطات الجديدة استكمال تصفية ما تبقى من مظاهر التماسك الأخلاقي والاجتماعي، وذلك عبر ارتكاب مجازر تطهير طائفي بحق السكان العلويين، تتحمّل مسؤوليتها الكاملة سلطات دمشق الجديدة. وهو ما عمّق الجرح السوري، وفاقم منسوب المأساة إلى حدّ باتت فيه البلاد أشبه بجيفة تنهشها القوى المتصارعة، المحلية منها والإقليمية والدولية.
وفي ضوء ما تقدّم، تُعدّ التجربة السورية في التفكك من بين أكثر التطبيقات كارثية لما عُرف بـ«عقيدة الصدمة»، كما وصفتها الصحفية نعومي كلاين. فبالتوازي مع السقوط المفاجئ لنظام الأسد، بدأت تُنفَّذ خطوات متسارعة، خلف الكواليس وبمعزل عن رقابة المجتمع السوري، تهدف إلى تمرير أيديولوجية «السوق الحرة» بشكل هزلي، من خلال ترتيبات بين صندوق النقد الدولي وسلطات دمشق. وقد تم ذلك في مسعى واضح لتكريس الخصخصة، كأدوات لنهب ما تبقى من مقدرات البلاد، وذلك على حساب دماء السوريين التي لم تجف.
انهيار المجتمع السوري
امتد فقدان السيادة إلى تفكك البنية المجتمعية السورية، التي باتت عرضة للاستغلال الداخلي والخارجي، وسط حالة من «حرب الكل ضد الكل» وفق تعبير توماس هوبز. ومع انهيار الدولة، تحولت المجتمعات إلى كيانات متناحرة، تتقاسمها المليشيات والمرتزقة والعصابات الممولة والمدعومة خارجياً، ما جعلها وقودًا لصراع لا نهاية له.
في هذا السياق، انحصر السوريون في هويات فرعية مذهبية وعرقية ومناطقية. في الأصل، لم تتشكّل هوية وطنية جامعة، حيث فرضت الدساتير السورية السابقة، والحالية، هوية «قوموية عربية أحادية»، مع اعتماد الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع، ما أدى إلى سياسات دمج قسرية عنيفة قائمة على الصهر والتنميط لأكثر من 60 عاماً.
خلال الحرب، استغلّت القوى المحلية والدولية غياب الهوية الوطنية، فعزّزت الانقسام العرقي والطائفي، مما ساعد في نشوء مليشيات إسلاموية وتنظيمات متطرفة كداعش، لتجد المجتمعات السورية نفسها وسط حرب هويات مدمّرة. إلى جانب الانهيار السياسي والاجتماعي، ساهم التهميش المناطقي والتفاوت الطبقي في تفكيك البنية المجتمعية، حيث تركّزت الثروة في المدن الكبرى، فيما أُهملت المناطق الشرقية والريفية، ما فجّر صراعاً طبقياً بدا وكأنه «انتفاضة الريف ضد المركز»، في مشهد يُذكّر بسعي عائلة فقيرة بائسة إلى السيطرة على قصر عائلة ثرية في الفيلم الكوري الشهير «الطفيلي».
شهدت المجتمعات السورية انهياراً في الوجدان الأخلاقي، حيث تلاشت مشاعر التعاطف وحلّ محلها التباهي بالعنف والكراهية، كما في مشاهد القتل والخطاب الطائفي ضد العلويين. وتحوّلت حوادث الاغتصاب، وجرائم قتل النساء، والصراع على الغنائم، والنزاعات العشائرية إلى سلوكيات يومية، يغذيها خطاب الكراهية، كما يظهر في التحريض ضد الكرد وغيرهم، مما ينذر بأننا أمام مجموعة جماعات وأفراد لم يعد يجمعها شيء سوى «ثقافة الموت».
سوريا اليوم في نفق مظلم، والضوء في نهايته ليس نور الأمل، بل قد يكون ضوء قطار قادم. لذا، إما أن تهدم سوريا جدار النفق وتتجه نحو الديمقراطية الشاملة على مستوى الدولة والمجتمع، أو أن تنتظر مصيرها المحتوم في دوامة لانهائية من الحروب العبثية
إحياء «الأمة الأحادية»
منذ سقوط نظام الأسد، لا تبدو هناك بوادر لتجاوز البنية القديمة. فكل سياسات الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، التي تعتمد على الإقصاء وتهميش الآخر، والذمية، واللون الواحد، ما هي إلا امتداد للنظام القديم في لبوس أصولي أخضر.
في مشهد مثير للانتباه، وبعد انتهاء اجتماع تعيين الحكومة الجديدة «التكنوقراطية أحادية اللون» في سوريا، توجّه شيخٌ، ممثّلٌ عن الدروز، إلى الشرع قائلاً أمام الكاميرات: «كنا مهمشين في السابق، وما زلنا مهمشين اليوم، رغم امتلاكنا للكفاءات» وذلك في إشارة إلى واقع السلطة الحالية في دمشق.
وفي السياق ذاته، لم يطرأ أي تغيير على وثيقة الإعلان الدستوري المؤقت، إذ حافظت على اسم «الجمهورية العربية»، كما أبقت على اشتراط أن يكون دين رئيس الدولة الإسلام، واعتبار «الفقه مصدرًا للتشريع»، إلى جانب منح الرئيس صلاحيات مطلقة، مما يجعلها استمراراً للنهج القديم.
إن محاولات إعادة إنتاج «الأمة الأحادية الطائفية»، تحت شعار «وطن واحد، علم واحد، نشيد واحد»، ورفض تنوع المجتمعات السورية، ستؤدي بالبلاد إلى الهلاك. إذ تسهم سياسات القلة الحاكمة في دمشق، بوصفها سلطة أمر واقع، في تفكك السيادة وتعميق الانقسام بين السوريين، بدلاً من توحيدهم ضمن إطار ديمقراطي.
حالياً، سوريا منقسمة بين عدة مناطق، حيث وسّعت إسرائيل نطاق نفوذها الأمني ليشمل معظم الجنوب السوري، في حين تحتفظ تركيا بسيطرتها على مناطق تمتد من تل أبيض وسري كانيه وجرابلس وصولًا إلى كامل محافظة حلب، مع سعيها لتوسيع مجال نفوذها في حماة والساحل السوري، بالإضافة إلى مناطق نفوذ التحالف الدولي والإدارة الذاتية. أما بنية الدولة وأجهزتها الأمنية، فهي تخضع لسيطرة مركزية من قبل «هيئة تحرير الشام»، إلى جانب فصائل تتراوح بين الارتزاق والتشدد، مما يحوّلها إلى كيان مليشياوي غير قادر على فرض سيادة القانون حتى على أجهزته الداخلية.
استنادًا إلى ما سبق، يصبح من الضروري إعادة تعريف مفهوم «السيادة» في الحالة السورية واستعادتها من خلال نهجين أساسيين: بناء دولة دستورية، وتنظيم المجتمعات ديمقراطياً. تُوزَّع السيادة بين الدولة والمجتمع، حيث يؤدي الدستور دور الصيغة التوافقية التي تنظم العلاقة بينهما. والاعتراف بهذا التنوع لا يعني إنهاء التناقضات، بل التصالح معها. وهذا بالضبط ما ينبغي أن يكون العمل السياسي للقوى السورية في المرحلة الراهنة.
سوريا اليوم في نفق مظلم، والضوء في نهايته ليس نور الأمل، بل قد يكون ضوء قطار قادم. لذا، إما أن تهدم سوريا جدار النفق وتتجه نحو الديمقراطية الشاملة على مستوى الدولة والمجتمع، أو أن تنتظر مصيرها المحتوم في دوامة لانهائية من الحروب العبثية.
نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.