في ظل عدم اليقين: ما هي خيارات شمال وشرق سوريا؟

 

نورهات حفتارو 

تعيش سوريا واحدة من أكثر مراحلها حرجاً منذ تأسيسها كدولة قومية، حيث تمرّ بأعنف أطوار «نزع السيادة» في تاريخها الحديث، في ظلّ تفكك مؤسسات الدولة وانهيار البنى المجتمعية. وعلى وقع التعقيدات الداخلية المتصاعدة، يُحكم الخناق على المشهد السياسي عبر احتكار السلطة المركزية من قبل «هيئة تحرير الشام»، إلى جانب مساعٍ لشرعنة هذه السلطة من خلال دستور إقصائي وحكومة تكنوقراطية أحادية التوجه واللون. في الوقت ذاته، تتفاقم الكارثة الإنسانية بفعل استمرار مجازر التطهير الطائفي في الساحل، وغياب أي برامج طارئة لمعالجة الأزمات الاقتصادية المتراكمة، من بطالة وجوع ونزوح داخلي. ولا تلوح في الأفق بوادر جدّية لإحداث تغيير بنيوي، سواء على مستوى الحكم أو السياسات العامة.

على الصعيد الإقليمي والدولي، تتزايد التجاذبات حول سوريا، في سياق الصراع على النفوذ، خاصة بين إسرائيل وتركيا، واستمرار العقوبات الدولية، واشتراطات الإدارة الأمريكية للاعتراف بدمشق ككيان شرعي، وسياسات أوروبية مناقضة لتراثها التنويري وقيمها الديمقراطية!

في ظلّ هذا الواقع المركب، تبرز الحاجة إلى التساؤل: ما هي خيارات شمال وشرق سوريا في ظل هذه المعادلات المتشابكة؟

بجانب الكتلتين القوموية العروبية والإسلاموية، يمكن لقادة شمال وشرق سوريا أن يعملوا وطنياً على بناء «الكتلة الثالثة»؛ وهي إطار جامع يشمل جميع القوى السياسية الديمقراطية، والأفراد، والأكاديميين، وممثلي الهويات الثقافية المتعددة والطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، إلى جانب المرأة والشباب

الخيارات السياسية

في لقاءه الأخير مع موقع «المونيتور»، أشار القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، إلى أن انفتاحهم على دمشق يأتي في ظل تغير الخطاب التركي تجاههم، بسبب بما وصفه بـ«الأثر الإيجابي لنداء السيد أوجالان في السلام والمجتمع الديمقراطي». هذه التحولات فتحت أبواباً جديدة أمام شمال وشرق سوريا، بعد انسداد سياسي شامل، عقب القضاء على نفوذ تنظيم «داعش» الجغرافي آذار 2019م.

سياسياً، أفضت هذه التطورات إلى اتفاق بين رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي في العاشر من مارس الماضي. وفي إطار مسار الاندماج مع دمشق، تظهر لدى شمال وشرق سوريا خيارات جديدة، على المستويين الداخلي والخارجي.

خارجياً، تمتلك شمال وشرق سوريا فرصة لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في ظل عدم اعتراف واشنطن بحكومة الشرع، وبرود العلاقات الأوروبية مع السلطات الانتقالية في دمشق.

إقليمياً، النأي بالنفس وعدم التحول إلى وقود للصراعات على النفوذ، خاصة بين تركيا وإسرائيل، ستكون سياسة أكثر حكمة بالنسبة لشمال وشرق سوريا. لاسيما ثمة إشارات على أن الطرفان يتوجهان نحو اتفاق على توزيع النفوذ ورسم خطوط فض الاشتباك. ويبدو أن نماذج الحكم التي يدعمها الطرفان، سواء النظام المركزي الذي تؤيده تركيا، أو الكيانات المجزأة على أسس عرقية وطائفية ومذهبية التي تدعمها إسرائيل، تُفاقم الأزمة بدلاً من تقديم حلول حقيقية.

أما على المستوى الداخلي، فقد أدّت السياسات الإقصائية التي تنتهجها سلطات دمشق إلى جعل نموذج الإدارة الذاتية، القائم على التنوع والتعددية، خياراً واقعياً ومقبولاً لدى قطاعات واسعة من المجتمع السوري. ومن هذا المنطلق، ترى القوى السياسية الديمقراطية في سوريا أن هذا النموذج يمكن أن يشكل مخرجاً ممكناً للوضع السوري الراهن.

بكل حال، لا يظهر أن مفهومي «الفيدرالية» و«الحكم الذاتي» يحظيان بأي قبول يُذكر ضمن السياق السوري، خصوصاً في ظل الرفض الصريح الذي تبديه كل من بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وتركيا تجاه هذه الطروحات. بالمقابل، إسرائيل وحدها قد تدعم هكذا نماذج. وفي هذا الإطار، جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، لتؤكد الموقف التركي الرافض بشكل قاطع لما وصفه بـ«الهياكل الفيدرالية» في سوريا. واللافت أن أوجالان نفسه، الذي يُفترض أن له تأثيراً نظرياً على توجهات الإدارة الذاتية، كان قد عبّر في نداءه بتاريخ 27 فبراير الماضي عن رفضه لتلك النماذج، مفضلاً بدلاً منها رؤية تقوم على المجتمع الديمقراطي ودولة المواطنة.

وبالنظر إلى هذا السياق السياسي، من الأفضل للقوى السياسية في شمال وشرق سوريا أن تتفادى الوقوع في هذا «المطب»، لأن ذلك سيُفسح المجال أمام تركيا لتعطيل أي مساعٍ تهدف إلى تحقيق الاستقرار في «روج آفا».

وعليه، فإن «الطريق الثالث» الذي يقوم على «الديمقراطية المحلية + دولة دستورية»، يُعد الخيار الأكثر عقلانية وقابلية للتطبيق في ظل الظروف الراهنة.

وبناءً على ماسبق، بجانب الكتلتين القوموية العروبية والإسلاموية، يمكن لقادة شمال وشرق سوريا أن يعملوا وطنياً على بناء «الكتلة الثالثة»؛ وهي إطار جامع يشمل جميع القوى السياسية الديمقراطية، والأفراد، والأكاديميين، وممثلي الهويات الثقافية المتعددة والطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، إلى جانب المرأة والشباب. فعلى سبيل المثال، يمكن لمجلس سوريا الديمقراطية أن يقود عملية بناء التوافقات والتحالفات، ويُعلن عن تشكيل جسم سياسي جديد جامع، يُعنى بتأسيس دولة دستورية من خلال خوض الانتخابات، والانخراط الفعّال في الحياة السياسية، وتنظيم المجتمعات الديمقراطية، عبر استيعاب قاعدة اجتماعية واسعة، وذلك من خلال برامج اقتصادية وسياسية تتسم بالطابع الديمقراطي والشامل.

وستُسهم هذه السياسات في تحويل سوريا إلى دولة فاعلة في تعزيز الأمن الإقليمي والتنمية في الشرق الأوسط، بدلاً أن تبقى مصدر تهديد لجيرانها. وإن كانت دول الاتحاد الأوروبي تسعى فعلاً إلى تحقيق ما تُسمّيه «الاستقرار» في سوريا، من أجل ضمان عودة آمنة للاجئين، فإن هذه دعم هذه السياسات سيحقق هذه الأهداف.

وبالمثل، فإن دعم الديمقراطية في سوريا وفق صيغة «الدولة الدستورية – المجتمع الديمقراطي»، من شأنه أن يُسهم في تجفيف منابع الإرهاب المتطرف، بما ينسجم مع السياسة الأمريكية الرامية إلى «محاربة الإرهاب».

لبناء الثقة والمحافظة على الشراكة الأمنية، يمكن لوحدات مكافحة الإرهاب التابعة لقوات سوريا الديمقراطية تنفيذ عمليات مشتركة مع تركيا ضد تنظيم داعش، برعاية التحالف الدولي. ويُمكن في هذا السياق إحياء «روح آشمة»، وهي العملية التي نُفِّذت عام 2015م، بين وحدات حماية الشعب والجيش التركي لنقل رفات سليمان شاه إلى قرية آشمة في كوباني على الحدود السورية التركية

الخيارات الأمنية

تتداخل الأبعاد الأمنية والسياسية بشكل وثيق في منطقة معقدة كالشرق الأوسط، وفي سياق هش ومتصدع كالساحة السورية. ويمكن تصنيف التحديات الأمنية في سوريا إلى ثلاثة محاور رئيسية: أولاً: العلاقة الأمنية مع تركيا. ثانياً: تحديات الاندماج الأمني مع دمشق. وثالثاً: الأمن المحلي والمجتمعي.

فيما يخص العلاقة الأمنية مع تركيا، يبدو أنها تسعى، بقيادة وزير خارجيتها هاكان فيدان، إلى بناء آلية تنسيق مشترك مع دول الجوار مثل الأردن والعراق، وبمشاركة سلطات دمشق، بهدف مكافحة تنظيم داعش من خلال تنفيذ عمليات مشتركة وتبادل المعلومات. ويهدف الجانب التركي إلى تقويض نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، بوصفها الحليف الموثوق للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وذلك عبر طرح آلية بديلة عنها.

إلا أن هذه المحاولات لم تُحقق النجاح حتى الآن، نتيجة رفض إسرائيل للنفوذ التركي المتزايد، إضافة إلى تحديات لوجستية وعملية، خاصة أن التجربة القائمة بين التحالف الدولي وقسد أثبتت فعاليتها، ولا توجد حاجة واضحة لاستبدالها بآلية جديدة غير مؤكدة الجدوى. يُضاف إلى ذلك رفض التحالف الدولي لانضمام دمشق إلى تلك الآلية، بسبب وجود مقاتلين أجانب ضمن صفوف ما يُسمّى بـ«الجيش السوري الجديد».

لبناء الثقة والمحافظة على الشراكة الأمنية، يمكن لوحدات مكافحة الإرهاب التابعة لقوات سوريا الديمقراطية تنفيذ عمليات مشتركة مع تركيا ضد تنظيم داعش، برعاية التحالف الدولي. ويُمكن في هذا السياق إحياء «روح آشمة»، وهي العملية التي نُفِّذت عام 2015م، بين وحدات حماية الشعب والجيش التركي لنقل رفات سليمان شاه إلى قرية آشمة في كوباني على الحدود السورية التركية. كما يمكن التفكير في إنشاء غرفة عمليات مشتركة تضم التحالف الدولي، وقسد، والجيش التركي، لمواجهة «داعش».

في سياق الاندماج الأمني مع دمشق، ورغم تأكيد قيادة قسد على خصوصية قواتها الأمنية في أي عملية اندماج مع دمشق، إلا أن الهاجس الأمني لا يزال يشكّل أولوية قصوى لسكان المنطقة. وفي هذا الإطار، وبجانب الحفاظ على استقلالية القوات الأمنية والعسكرية، فإن مشاركة قيادات عسكرية من قسد في إدارة وزارة الدفاع السورية من شأنها أن تثري بنية الجيش بخبرات ميدانية، وتعزز الثقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمعات المحلية، خاصة بعد القطيعة التي خلّفها النظام السوري السابق.

على الصعيد المحلي في شمال وشرق سوريا، يبدو أن الخيار الأكثر واقعية لتنظيم الأمن الداخلي هو ربط الأجهزة الأمنية بالمجالس المحلية. ومن الأفضل أن تُعيَّن عناصر الأمن المحلي ويتم تفويضهم من قبل هذه المجالس، وذلك بهدف تفادي تكرار تجربة الأجهزة الأمنية القمعية التي أسسها نظام الأسد، والتي شكّلت أحد الأسباب الرئيسية لانفجار الأوضاع في سوريا. بمعنى آخر، يجب أن تكون تصرفات هذه الأجهزة خاضعة لرقابة واضحة من المجالس والهيئات السياسية، وبما يضمن شفافية عملها وانضباطها ضمن إطار مؤسساتي واضح.

إلى جانب القطاعين العام والخاص، يبرز القطاع المجتمعي كركيزة ثالثة محورية، تمتلك القدرة على استيعاب الطاقات المحلية وتحويلها إلى قوة إنتاجية مستدامة. ومن شأن إشراك المجتمعات المحلية، سواء في الريف أو في المدن، ضمن إطار «الاقتصاد التشاركي»

الخيارات الإدارية-الاقتصادية

من الناحية الإدارية، تبدو منطقة شمال وشرق سوريا أمام فرصة للعمل ضمن مسارين متكاملين ومترابطين. أولاً، يمكن الحفاظ على نموذج الإدارة الذاتية بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، مع العمل على إعادة تنظيم دستورها المحلي وتفويض صلاحياتها ضمن إطار «قانون جديد للإدارة المحلية» يصدر عن السلطة المركزية، بما يضفي على هذا النموذج طابعاً مؤسسياً أكثر رسوخاً واستقراراً، على غرار التجارب المحلية المعتمدة في بريطانيا والاتحاد الأوروبي. ثانياً، تبرز الحاجة إلى تعزيز الوجود والمشاركة في مؤسسات الدولة المركزية في دمشق، والتعامل مع الدولة كمؤسسة جامعة تمثل دستورياً كافة مكونات المجتمع السوري، بكل ما تحمله من تنوع ثقافي واجتماعي.

في هذا السياق، تبرز قضية «انتخاب المحافظ محلياً» كمدخل ضروري لترسيخ الديمقراطية المحلية وتعزيز الشفافية. إذ إن استمرار تعيين المحافظين من قبل السلطة المركزية في دمشق لا يخدم سوى ترسيخ الولاءات الشخصية، ويفتح الباب أمام الفساد والمحسوبية. حين يكون ولاء المسؤول للسلطة المركزية وليس للبيئة المحلية التي يديرها، وبذلك تتراجع فرص التنمية الحقيقية. كما أن الإبقاء على نظام «الرئاسة المشتركة» في إدارة المحافظات والمجالس المحلية، وتوسيعه ليشمل باقي المناطق السورية، يمكن أن يشكل تجربة فريدة في تعزيز الديمقراطية على مستوى الوطني السوري.

يشكل الملف الاقتصادي محوراً حيوياً بالغ الأهمية، لا سيما في ظل واقع الانقسام والتشظي، الذي يفرض ضرورة صياغة رؤية واضحة المعالم لنموذج اقتصادي يتلاءم مع خصوصيات شمال وشرق سوريا، ويشكل مخرجاً لعموم البلاد أيضاً. وإلى جانب القطاعين العام والخاص، يبرز القطاع المجتمعي كركيزة ثالثة محورية، تمتلك القدرة على استيعاب الطاقات المحلية وتحويلها إلى قوة إنتاجية مستدامة. ومن شأن إشراك المجتمعات المحلية، سواء في الريف أو في المدن، ضمن إطار «الاقتصاد التشاركي»، أن يساهم في استعادة التوازن الاجتماعي. إلا أن الأولوية القصوى تبقى متمثلة في خلق فرص عمل حقيقية والحد من البطالة، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة على مستوى البلاد. ومن الضروري أن يُطرح الملف الاقتصادي للنقاش الواسع في الفضاء العام، عبر إشراك مختلف الفئات الاجتماعية من خلال ورش عمل ومؤتمرات نوعية، قادرة على بلورة حلول عملية على المدى القريب والمتوسط، على أقل تقدير.

من هذا المنظور، تُفتح آفاق جديدة أمام تأسيس صناديق محلية لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بعيداً عن الآليات القائمة على الفوائد، الأمر الذي من شأنه تخفيف نسب البطالة، وتضييق الهوة الطبقية، وإضفاء مزيد من المرونة على البنية الاقتصادية. بذلك، يتحقق تفكيك تدريجي لاقتصاد الظل القائم على شبكات تجار الحرب والمافيات.

ولا ينبغي أن تبقى الأنشطة الاقتصادية محصورة ضمن حدود جغرافية مغلقة. فمثلاً، يمكن إنشاء مؤسسة زراعية في كوباني (عين العرب) بالتعاون مع مجموعات إنتاجية من دير الزور أو درعا، ما يعزز من التكامل الاقتصادي بين مختلف المناطق. كذلك، تُعد الشراكات مع المنظمات الدولية، ومؤسسات مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فرصة حقيقية لتحريك عجلة الاقتصاد المحلي ضمن أطر التنمية البيئية المستدامة.

سوريا، بكل مكوناتها، باتت بأمسّ الحاجة إلى خطة اقتصادية طارئة، لا تقوم على احتكار الثروات أو تدوير الامتيازات بين فئات محددة، بل تستند إلى العدالة والتوزيع المنصف للموارد، بما يعيد بناء الثقة بين المجتمع والدولة، ويمنح الجميع فرصة متكافئة في مستقبل مشترك.

يمكن الاستفادة من تجارب دستورية مشابهة، كما في الحالة التونسية، حيث يكتفي الدستور بالإشارة إلى اللامركزية والسلطات المحلية بشكل عام، فيما تُنظّم التفاصيل الدقيقة عبر تفويض «قانون الإدارة المحلية»

البنية القانونية

في ظل التعقيد السياسي والدستوري القائم، هنالك حاجة لصيغة قانونية مرنة تعزز الديمقراطية المحلية دون أن تدخل في صدام مباشر مع السلطة المركزية. من هذا المنطلق، يمكن الاستفادة من تجارب دستورية مشابهة، كما في الحالة التونسية، حيث يكتفي الدستور بالإشارة إلى اللامركزية والسلطات المحلية بشكل عام، فيما تُنظّم التفاصيل الدقيقة عبر تفويض «قانون الإدارة المحلية». هذه المقاربة تمنح مساحات قانونية واسعة دون الحاجة إلى تضمين كل التفاصيل في نص الدستور المركزي.

وبالقياس على السياق السوري، يمكن أن يتضمن الدستور المبادئ الأساسية المتعلقة بالديمقراطية المحلية، والاعتراف بالإدارات الذاتية، إلى جانب مفاهيم مثل «المواطنة الدستورية» و«الحقوق السياسية والثقافية للشعوب»، و«حق المجتمعات في تنظيم شؤونها السياسية والاقتصادية والإدارية». ويمكن تدعيم الدستور الوطني، بمصطلحات مثل «المصير المشترك» و«الوطن المشترك» و«الحياة المشتركة». أما التفاصيل الإجرائية والتنظيمية، فيمكن أن تُفعل عبر قوانين محلية مرنة، تتيح لكل مجتمع إدارة شؤونه وفق خصوصياته، دون أن تخل بوحدة الدولة.

هذا النموذج لا يشكل فقط حلاً قانونياً، بل يفتح أيضاً أفقاً لتحقيق الوفاق المجتمعي والسلم الأهلي، في ظل وجود تجارب إدارية متباينة أيديولوجياً على الأرض السورية. وجود قوانين محلية قادرة على استيعاب هذا التنوع يمكن أن يشكل صمام أمان لوحدة البلاد.

أما على مستوى شمال وشرق سوريا، فإن استقرار المؤسسات لا يكتمل دون فرض سيادة القانون على جميع التشكيلات، سواء كانت مدنية أو عسكرية. إذ ينبغي أن تخضع لرقابة المجالس المحلية المنتخبة، بما يضمن خضوع جميع السلطات لإرادة المجتمع، ويمنع تحوّلها إلى كيانات فوق القانون أو أدوات للنفوذ الفئوي.

يجد القادة في شمال وشرق سوريا أنفسهم اليوم أمام لحظة حاسمة، ومفترق طرق لا يحتمل التردد. إما الانخراط في عملية إصلاح شاملة تُعيد بناء المشروع السياسي على أساس المشاركة، والشفافية، والمجتمع الديمقراطي، أو الاستمرار في الدوران ضمن حلقة السياسات القديمة، حيث تغيب الرؤية، ويستشري الفساد، ويتآكل ما تحقق من مكتسبات

إصلاح شامل

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها المشهد السوري، واستمرار حالة الاضطراب التي تطغى على بيئة الشرق الأوسط عموماً، تبرز أمام شمال وشرق سوريا فرص جديدة، وإن كانت محاطة بتحديات جسيمة. ومع ذلك، فإن هذه اللحظة التاريخية تتطلب مراجعة جذرية وشاملة لنهج الإدارة والسياسة والاقتصاد، تتجاوز الأطر التقليدية والأدوات القديمة التي أثبتت محدوديتها في مواجهة تعقيدات الواقع. وكما أثبتت تجارب عديدة على مستوى العالم، فإن الإصرار على تكرار نفس الآليات وبالعقلية ذاتها لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج نفس النتائج، دون أي تقدم يُذكر.

في هذا السياق، تبدو الحاجة إلى «إصلاح شامل» في شمال وشرق سوريا أكثر من ضرورية، لا كاستجابة ظرفية، بل كمسار مستدام يستند إلى مراجعة بنيوية للسياسات المتبعة، خصوصاً مع الانخراط المتزايد في مسار الاندماج مع دمشق. غير أن هذا الإصلاح لا يمكن اختزاله في تغيير شكلي أو إعادة ترتيب للحصص بين الأحزاب، بل يجب أن يكرّس مشاركة حقيقية للمجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، ويعيد توجيه بوصلة الاقتصاد نحو نموذج أكثر عدالة، يتجاوز الاحتكار، ويُعيد توزيع الثروة نحو القاعدة الاجتماعية عبر مشاريع تنموية مجتمعية قابلة للحياة.

أما المشروع الديمقراطي، فلا يمكن أن ينجح في شمال وشرق سوريا، ما لم يتزامن مع تحوّل على مستوى البلاد بأسرها. فدون ريادة التحوّل الوطني الديمقراطي، ستظل مساعي الديمقراطية المحلية محاصرة ضمن حدود جغرافية هشة، ومهددة في كل لحظة.

وهكذا، يجد القادة في شمال وشرق سوريا أنفسهم اليوم أمام لحظة حاسمة، ومفترق طرق لا يحتمل التردد. إما الانخراط في عملية إصلاح شاملة تُعيد بناء المشروع السياسي على أساس المشاركة، والشفافية، والمجتمع الديمقراطي، أو الاستمرار في الدوران ضمن حلقة السياسات القديمة، حيث تغيب الرؤية، ويستشري الفساد، ويتآكل ما تحقق من مكتسبات. وفي منطقة تتغير معادلاتها باستمرار، فإن التأخر في إدراك هذا التحول، قد يعني ضياع فرصة تاريخية لا تُعوض.

 

نورهات حفتارو: كاتب يهتم بالقضايا السياسية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط وسوريا.