أنقرة وتل أبيب: صدام على الهيمنة دون قطيعة (3)

فرهاد حمي

في الجزء السابق، توصّلنا إلى أن الصدام بين تركيا وإسرائيل يعدّ تنافساً على النفوذ دون أن يبلغ حدّ القطيعة، إذ تتحكمه توازنات القوى الكبرى كأمريكا وبريطانيا. اليوم، يتجلّى هذا الصدام بشكل أوضح في الساحة السورية، حيث بلغ التصعيد ذروته. والمفارقة أن أذربيجان، التي كانت في الماضي موطن الدولة الخزرية ذات الجذور التركية – اليهودية، أصبحت مركزاً لمحادثات مباشرة بين أنقرة وتل أبيب، برعاية أمريكية غير معلنة، بهدف احتواء التنافس على سوريا.

لكن لم تمضِ أيام قليلة على انعقاد الاجتماع الأول بين الطرفين في باكو، حتى خرج الرئيس التركي بتصريحات حادة، اتهم فيها إسرائيل بتحريض الأقليات العرقية والطائفية ضد حكومة أحمد الشرع، وبالسعي إلى تقويض نفوذ دمشق عبر ضرباتها العسكرية المتكررة.

في المقابل، لم تلتزم إسرائيل الصمت، بل سارعت إلى تأكيد خطوطها الحمراء، مشددة على رفضها لأي توسّع تركي خارج نطاق نفوذها العسكري في سوريا، خصوصاً بعد استهدافها لمطارات وقواعد جوية عسكرية في حماة ومطار التيفور في تدمر. ما يشير إلى أن هذه التوترات والاتهامات المتبادلة تعكس غياب اتفاق واضح بين الجانبين حتى الآن.

بعض الأصوات الأمنية في تل أبيب ذهبت إلى أبعد من ذلك، معتبرة أن التدخل التركي بات يُشكّل تهديداً موازياً للتهديد الإيراني في الحسابات الاستراتيجية. ورغم هذا التصعيد، تواصل أنقرة الإصرار على تعزيز وجودها في الساحة السورية، من خلال دعمها المتواصل لحكومة أحمد الشرع.

وسط هذا الضجيج الذي يطغى على المشهد الراهن، يصعب اختزال النزاع بين تركيا وإسرائيل إلى مجرد صراع على «الكعكة السورية» فحسب، كما لا يمكن تأطيره كمواجهة وجودية على غرار الصراع الإيراني الإسرائيلي. فالصدام بين الطرفين يتجاوز ذلك، ليشكّل صراعاً أعمق تتداخل فيه الحسابات الجيوسياسية مع السرديات الإيديولوجية، ويثقل كاهله التداخل التاريخي، وتباين الرؤى المستقبلية. ويتقاطع هذا كله مع رهانات التحالفات الدولية ومشاريعها لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط على صورتها، لا سيما بعد السابع من أكتوبر، وإن ظل هذا الصراع محكوماً، في نهاية المطاف، بقواعد اشتباك منضبطة.

منذ توليه السلطة، اعتمد أردوغان وحزبه، شعار «الإسلام السلطوي السُّني» كأداة استراتيجية لتوسيع النفوذ التركي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وقد تجسدت هذه السياسة في دعم أنقرة لحركات إسلامية مليشياوية مثل حماس، والإخوان المسلمين، والتيارات الأصولية ذات الطابع القومي في سوريا، إضافة إلى جماعات جهادية، وذلك بهدف تقوية موقعها في مواجهة إسرائيل وحلفائها على الساحة الدولية.

رغم التنافس الظاهر بين أنقرة وتل أبيب، فقد ظل هناك تنسيق غير معلن بينهما، خاصة في الساحة السورية بعد اندلاع الأزمة. فقد توافقت مصالحهما عبر قنوات للتبادل الاستخباراتي والتعاون الميداني، لاسيما في مواجهة نفوذ نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس. بل إنّ الطائرات الإسرائيلية، وقبل سقوط نظام الأسد، سهلت تقدم قوات هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا نحو دمشق. وكان الطرفان بذلك يقفان في صف واحد ضد الأسد وحلفائه. لكن، ماذا عن إعادة رسم النفوذ وتوزيع الحصص في اليوم التالي؟

إسرائيل تريد سوريا إلى كانتونات قوموية، في حين تعمل تركيا صهرها في مركزية سنّية تابعة لها وظيفياً، وبذلك، يعيد الطرفان رسم شكل الدولة السورية وفق تصورهما الذاتية، لا وفق تطلعات السوريين، خصوصاً في ظل غياب المنظومة الأخلاقية والقانونية الدولية عن مشهد الشرق الأوسط

غياب الأسد واختراع العدو

لم يكن سقوط الأسد وحلفائه في سوريا مجرد تحول عسكري، بل مثّل صدمة غير متوقعة أربكت مواقف الخصوم التقليديين، وعلى رأسهم تركيا وإسرائيل. ومع انطلاق العمليات التي أدّت إلى انهيار النظام، بدا الارتباك جلياً في سلوك الطرفين، وكأن استراتيجياتهما فقدت بوصلتها. وتُشبه هذه الحالة آلية تشغيل الفنتازيا الإيديولوجية، التي تقوم على اختراع «آخر» يُقدَّم كعدو، لضمان تماسك السردية وتوحيد الهوية الجماعية في مواجهة تهديد متخيَّل أو مُصنَّف على هذا النحو. إذ ينبغي أن يبقى العدو قائماً، أو يُعاد اختراعه من جديد.

فقد كان نظام الأسد، بما يمثله من رمزية، حجر الزاوية في صورة «العدو الضروري» لكل منهما بعد الأزمة السورية. بالنسبة لتركيا، كان يشكل تهديداً معقداً، إذ يمثل نظام استثمر الورقة الطائفية، الذي يبرر توسعها السنّي، وصعود نزعتها العثمانية الجديدة. أما إسرائيل، فوجدت فيه، إلى جانب الفوضى التي عمّت سوريا، ذريعة دائمة لخطاب «الخطر الوجودي» و«الدفاع عن النفس»، مما مكّنها من تبرير ضرباتها المتكررة.

لكن المفارقة تكمن في أن الخطر لم يكن في وجود الأسد بحدّ ذاته، بل في سقوطه. فبانهيار النظام، انكشفت هشاشة الفنتازيا التي بنت عليها كلُّ من إسرائيل وتركيا، سياساتهما. عندها، لم يجد الطرفان أمامهما سوى محاولة يائسة لإعادة خلق عدو بديل في الساحة السورية، ليس فقط للحفاظ على تماسك خطابهما السياسي، بل أيضاً للهروب من مواجهة التناقضات الداخلية المتراكمة، ولتمديد عمر نفوذهما الإقليمي المستتر تحت شعار «الأمن القومي». ولعل من هذا الفراغ الفنتازي، تصاعد خطاب العدوّ البديل.

بهذا المعنى، تسعى تركيا إلى إعادة تنشيط فنتازيتها الإيديولوجية عبر الساحة السورية، مستندة إلى طابعها القومي المركزي. فهي لا تتعامل مع الإسلام كإطار روحي جامع، بل توظفه كأداة ابتزاز سياسي موجّه ضد خصومها الإقليميين، وفي مقدمتهم إسرائيل، وكوسيلة لتعزيز النزعة المركزية داخل سوريا، من خلال استثارة الأغلبية السنية باعتبارها القاعدة الأكثر قابلية لتكريس مركزية الدولة. وبذلك، تهدف إلى بلورة نظام سوري يعكس صورتها الإيديولوجية والسياسية، نظام يُخضع دمشق لمنطق الدولة القومية المتجانسة، دون فسح المجال أمام التعددية السياسية، أو نماذج الحكم الذاتي، أو الفيدراليات، أو أي شكل من أشكال اللامركزية.

يعود هذا التشدد إلى خشية تركية عميقة من أن يفضي الاعتراف بالتعدد داخل سوريا إلى خلق سابقة قد تُهدّد تماسك بنيتها الداخلية الهشّة، بما قد يؤدي إلى تقويض مركزية دولتها. وقد ظهرت هذه الرؤية بوضوح في الإصدار الأخير للدستور السوري المؤقت، وفي هيكلية الحكومة، حيث بدأت ملامح المشروع التركي تنعكس بشكل مباشر على ملامح سوريا السياسية الجديدة.

من جهتها، تتمثل فنتازيا التفوّق الإسرائيلي في الحلم بـ«لحظة الهيمنة»، حيث يُعاد تشكيل خرائط الشرق الأوسط بما ينسجم مع السردية الإيديولوجية الصهيونية، ويُبنى نظام أمني مستقر لعقود، وفقاً لتصوراتها الذاتية. غير أن هذه الرؤية تصطدم بوجود دول قومية مركزية، سواء تأسست على الانتماء الديني أو العرقي أو كليهما، إذ إن جوهر العقيدة الأمنية الإسرائيلية، لا سيما في صيغتها اليمينية، يقوم على مبدأ «إنتاج العدو»، باعتبار أن الأمن، وفق الفهم الإسرائيلي، لا يتحقق عبر المصالحة مع الخصوم، بل من خلال تفكيكهم وتقويض بنيانهم الداخلي.

من هنا، يأتي السعي الإسرائيلي المستمر لفرض «مناطق عازلة» في سوريا ولبنان وفلسطين، كحزام أمني مرن يتحكم في حدود التهديد، بالتوازي مع مشروع أعمق، يرمي إلى تحويل هذه البلدان إلى كيانات طائفية وعرقية تتنازعها ولاءات الداخل والخارج، فيمنع تشكّل الدولة المركزية الموحدة، وخاصة إذا كانت حديثة العهد ومدعومة من طرف إقليمي معادي أو منافس، مثل تركيا.

وفق هذه الرؤية، يتمايز المسار الإسرائيلي عن نظيره التركي بشكل جوهري: فتركيا، رغم أطماعها التوسعية، تبقى محكومة بجغرافيا مترامية وبقاعدة سكانية واسعة تجعل من سياسة العزل أمراً شبه مستحيل. لذلك، تراهن على فنتازيا مختلفة تُجسّدها «العثمانية الجديدة»، التي ترى في دعم الدول المركزية ذات الغالبية السنية وسيلةً لتوسيع نفوذها الإقليمي، لا تهديداً مباشراً لأمنها القومي.

أما إسرائيل، فبحكم صغر مساحتها وضعف عمقها الجغرافي والديمغرافي، تنتهج فنتازيا مغايرة تقوم على تعزيز الكيانات القومية الصغيرة والمفككة في محيطها، لأن وجود دول مركزية موحدة وقوية يُعدّ، من منظورها الأمني، تهديداً لبقائها. وبذلك، تتحقق رؤيتها للأمن من خلال تفكيك الجوار لا التفاعل معه، بعكس النموذج التركي الذي يسعى إلى السيطرة عبر الاحتواء والتوسيع.

الرؤيتان، رغم اختلاف دوافعهما، تتفقان على إزاحة فكرة «الدولة الجامعة المتعدّدة»، فإسرائيل تريد تفكيكها إلى كانتونات قوموية، في حين تعمل تركيا صهرها في مركزية سنّية تابعة لها وظيفياً، وبذلك، يعيد الطرفان رسم شكل الدولة السورية وفق تصورهما الذاتية، لا وفق تطلعات السوريين، خصوصاً في ظل غياب المنظومة الأخلاقية والقانونية الدولية عن مشهد الشرق الأوسط.

تتحرّك تركيا على مسارين متوازيين ومتناقضين في آنٍ واحد: المسار الأول، محاولة اجتذاب الكرد إلى صفّها عبر إحياء خطاب «الميثاق الملي» بصيغة جديدة، تقدم فيه وعوداً بإعادة الاعتبار للهوية والمشاركة، خشية من أن تستغل تل أبيب الواقع الكردي لصالحها. أما المسار الثاني، فيمرّ عبر استثمار الجماعات الأصولية في سوريا، كأداة تعزّز بها وجودها العسكري وتفتح من خلالها أبواب المنافسة على مشاريع الطاقة

إتمام ما لم يتم

ثمّة دوافع ظلّت معلّقة في الفراغ، لم تنضج بعد ولم تبلغ منتهاها لدى كلا الطرفين، منذ أن تشكّل الشرق الأوسط الحديث على أنقاض السلطنة العثمانية. واليوم، وفي ظلّ التحوّلات المتسارعة في سوريا ما بعد الأسد، تتقدّم هذه الدوافع من جديد، إذ يسعى الطرفان إلى استثمار اللحظة، كلٌّ وفق رؤيته ومصالحه.

تعتبر تركيا أن اتفاقية لوزان قد كبّلتها، وانتزعت منها حقها الطبيعي في لعب دور مركزي في البحر المتوسط والشرق الأوسط. ومن هنا، أطلقت مشروع «الوطن الأزرق»، مستعيدة حلمها البحري، وربطته بخطوط الغاز المرتقبة في سوريا والعراق، وبإحياء طيف «الميثاق الملي»، ذاك التصور الحدودي الذي لم يغادر خيال القوميين والإسلاميين يوماً. وبدعم هؤلاء، تحاول أنقرة اغتنام الفرصة لتوسيع نفوذها، وكسر القيود التي طالما اعتبرتها ظلماً تاريخياً.

هذا التوجّه لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى دور لعبته تركيا في تحجيم النفوذ الروسي، دور ورثته عن اتفاق لوزان نفسها، حين تحوّلت إلى دولة فاصلة بين روسيا وامتداداتها الجنوبية. وإلى جانب ذلك، سعت تركيا إلى تطويع خصومها الإقليميين بما يخدم المصالح الإسرائيلية، مثل إيران والنظام السوري، لتجد نفسها اليوم تطالب بما تعتبره استحقاقاً مضاعفاً لقاء خدماتها الإقليمية المتعددة.

ليست بنية الدولة القومية التركية، بصيغتها الحالية، مصدر قلق لأنقرة كما يدّعي كلّ من أردوغان وباهجلي، بل تكمن رهاناتها الحقيقية في سعيها المحموم نحو استعادة دور إقليمي أوسع، مُستندةً إلى إرث العثمانية وروح الإسلام السنّي، لا سيّما تحت قيادة الثنائي الذي يَجمع بين الشعور بالغبن التاريخي والنفور المُعلن من إسرائيل.

في هذا السياق، تتحرّك تركيا على مسارين متوازيين ومتناقضين في آنٍ واحد: المسار الأول، محاولة اجتذاب الكرد إلى صفّها عبر إحياء خطاب «الميثاق الملي» بصيغة جديدة، تقدم فيه وعوداً بإعادة الاعتبار للهوية والمشاركة، خشية من أن تستغل تل أبيب الواقع الكردي لصالحها. أما المسار الثاني، فيمرّ عبر استثمار الجماعات الأصولية في سوريا، كأداة تعزّز بها وجودها العسكري وتفتح من خلالها أبواب المنافسة على مشاريع الطاقة، في سباق للخروج من العزلة التي فرضتها القوى الكبرى على أطماعها في شرق المتوسط.

الساحل السوري، في هذه المعادلة، يتحوّل إلى شريان نجاة لتركيا، ليس فقط لموقعه الاستراتيجي، بل كنافذة تعيد من خلاله حضورها في المتوسط، وتمنحها فرصة لإعادة التموضع في قلب المعادلات الدولية، مدعومةً، من خلف الستار، من حلفاء تاريخيين مثل بريطانيا، الذين يرون في صعود تركيا أداة توازن في صراع النفوذ على المنطقة.

في حين، تتحرك إسرائيل، وهي مدفوعةً بالعقيدة التوراتية ومفهوم «الشعب المختار»، تسعى اليوم للانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهيمنة، لاستعادة ما تعتبره حقاً تاريخياً في تصدّر المشهد الإقليمي. لم تعد الدولة القومية الإسرائيلية، كما يصوّرها بعض اليساريين والقوميين، مجرّد امتداد استعماري كلاسيكي، بل باتت تطرح نفسها كقوة مركزية، نواة للهيمنة في الشرق الأوسط، وأيضاً كفاعل دولي يصطف إلى جانب القوى الكبرى في النظام العالمي.

في سبيل تكريس مكانتها كقوة إقليمية مطلقة، تتجلى في سلوكها السياسي والعسكري، ملامح مشروع إمبريالي حديث، يُزاوج بين التفوق العسكري، والدبلوماسية الضاغطة، والتوسع الاستراتيجي. إنها لا تتصرف كدولة تبحث عن الأمن فحسب، بل كقوة تسعى لترتيب الإقليم وفق مصالحها، وبما يضمن تفوقها النوعي واحتكارها لمفاتيح القوة والطاقة في المشرق.

من أجل ذلك، تتبع إسرائيل نهجاً يستند إلى تكريس نمط من البنية الإقليمية يقوم على تعزيز الهويات القَبَلية، والأثنية، والمذهبية، شريطة أن تنسجم مع مصالحها الاستراتيجية. وهي تفعل ذلك من خلال الدفع نحو نماذج حكم فيدرالية أو ذاتية الطابع، لا تجمع بين مكوناتها ضمن إطار ترابطي، بل تفتتها داخل قوالب سلطة «قوموية» مجزأة، بحيث يتحوّل النموذج برمّته إلى أداة تفكيك لا وحدة فيها، ومجال نفوذ هشّ خالٍ من القوة الصلبة.

بهذه الطريقة، يُصار إلى نزع المخالب العسكرية عن المحيط، وتفريغه من أي خصم فعّال يمكن أن يشكّل تهديداً، تمهيداً لإعادة تشكيله سياسياً واقتصادياً ضمن ترتيبات ما بعد الحرب. وهنا، تأتي الاتفاقيات الإبراهمية كذروة هذا المشروع، حيث تُرسم خارطة المنطقة وفق تصور تدور فيه الكيانات حول مركز الهيمنة الإسرائيلية، في لحظة ما بعد صراع، لا ما بعد سلام.

من هذا المنطلق، لا يمكن لإسرائيل أن تتسامح مع نشوء قوى إقليمية تحمل طموحات تنافسية، أو تسعى إلى فرض معادلات بديلة، لأن في ذلك ما قد يهدد تفوقها النوعي، ويفتح الباب أمام ابتزاز استراتيجي يضعها في موقع المتلقي بدل المقرر. فإسرائيل، عملياً، لا تقبل بشركاء في الهيمنة، بل تطمح لأن تبقى اللاعب الأوحد في ساحة باتت ترى نفسها وصية عليها.

لا ترغب لندن في رؤية إسرائيل وقد انفردت بالهيمنة المطلقة على مفاصل المنطقة، لما في ذلك من تهديد صامت لقبضتها التقليدية. ورغم تقاطع مصالحها التكتيكية مع أنقرة، فإنها لا تؤيّد نزعات تركيا التوسعية إلا بالقدر الذي تخدم فيه الأجندة الجيوسياسية البريطانية

مآل الصدام

يتوقف مآل هذا الصدام والتنافس في المنطقة على خارطة النفوذ الدولي، وتحديداً بين قطبين متمايزين من داخل معسكر الغرب نفسه: بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون وورثة العولمة من جهة، وواشنطن التي تجنح نحو العقيدة «الترامبية» من جهة أخرى.

بريطانيا، التي كانت صاحبة اليد الطولى في رسم خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، لا ترغب بانهيار البُنى التي أسّست لنفوذها الطويل، بل تسعى إلى تعديل مراكز القوى داخل تلك الخريطة بما يخدم مصالحها دون المساس بأسس التوازن التي أُرسيَت. ومن هذا المنطلق، وبعد أن ساهمت في تقويض النفوذين الإيراني والروسي نسبياً، تعوّل اليوم على تركيا لتؤدي دور الواجهة الإسلامية، التي تُخاطب مشاعر الأغلبية السنّية في سوريا، حتى وإن جاءت الحكومة بصبغة جهادية.

ترى لندن في هذا التوجّه وسيلة للحفاظ على مصالحها التاريخية، الممتدة من النزعة الاستشراقية إلى الطموحات النفطية والجيوسياسية. لكنها، في الوقت ذاته، لا ترغب في رؤية إسرائيل وقد انفردت بالهيمنة المطلقة على مفاصل المنطقة، لما في ذلك من تهديد صامت لقبضتها التقليدية. ورغم تقاطع مصالحها التكتيكية مع أنقرة، فإنها لا تؤيّد نزعات تركيا التوسعية إلا بالقدر الذي تخدم فيه الأجندة الجيوسياسية البريطانية.

بهذا المعنى، تريد بريطانيا من تركيا أن تؤدي وظيفة الدولة القومية في مشهد سياسي متشظٍ، لتكون بمثابة جسر تعبر من خلاله مصالحها. وهو الدور الذي يتقاطع، من حين إلى آخر، مع رؤية إدارة بايدن وأنصار العولمة، ممن لا يمانعون بقاء أنقرة ضمن هامش المبادرة ما دامت لا تتجاوزه.

مع صعود دونالد ترامب إلى واجهة المشهد السياسي الأميركي، بوصفه ممثلاً لعقيدة «القبيلة» المتجذّرة في الفكر اليميني المتطرف، بدت تحركاته متناغمة تماماً مع توجهات بنيامين نتنياهو، مستنداً إلى دعمٍ واسع من دوائر رأس المال الصهيوني في الولايات المتحدة، كأمثال روبرت ميرسر، وشيلدون أديلسون، ولوبي «إيباك» النافذ.

ورغم أن ترامب لا يعارض الإبقاء على الخريطة الجغرافية للمنطقة كما هي، في انسجام نسبي مع الموقف البريطاني، إلا أن خلافاته مع لندن، ومع أنقرة أيضاً، تظهر جلية عند ترسيم خطوط النفوذ وتحديد مراكز الهيمنة. فهو، في جوهر مشروعه، يجنح نحو الرؤية الإسرائيلية، ساعياً إلى إعادة هندسة المنطقة بما يتوافق مع مصالح تل أبيب.

زيارة نتنياهو إلى واشنطن، التي امتدت لأسبوع كامل بعد تولي ترامب سدّة الحكم، لم تكن حدثًا عابراً بل إشارة رمزية حاسمة إلى هذا المسار. أما غياب هاكان فيدان عن المؤتمر الصحفي بعد لقاءه مع نظيره الأميركي، فقد شكّل بدوره مؤشّراً واضحاً على فتور العلاقة، بل وربما رفض واشنطن للمطالب التركية.

في هذا السياق، يُتوقع أن يُمارس ترامب ضغوطًا متزايدة على أنقرة، من خلال أدوات الابتزاز الاقتصادي والعسكري والأمني. كما لا يُستبعد أن يستخدم نفوذه في سوريا لتطويق حكومة أحمد الشرع، ولدعم أطراف محلية كقوات سوريا الديمقراطية، والدروز، والمكونات المسيحية والعلوية، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية في إنتاج مشهد سياسي مفكك، تحكمه توازنات الأقليات وتديره الهيمنة من الخلف.

في خضم التنافس الإقليمي المتصاعد، تتعامل كل من تركيا وإسرائيل مع المشهد السوري كساحة شطرنج مفتوحة، تتحرك فيها القطع وفق حسابات دقيقة، بهدف إعادة التموضع وترسيخ النفوذ. أنقرة، المدفوعة برؤية جيوستراتيجية تستلهم من الإرث البريطاني في إدارة التوازنات، تسعى إلى كسر طوق العزلة الذي فُرض عليها، عبر الانفتاح على المكوّن الكردي، ودعم شخصيات سورية محسوبة على التيار الاصولي، كأحمد الشرع، أملاً ببناء موطئ قدم مستدام داخل العمق السوري.

في المقابل، يتحرك تل أبيب تحت مظلة الاندفاع الترامبي، متسلحاً بتحالفه العميق مع مراكز القرار في واشنطن، فتعمد إلى توثيق علاقاتها مع مكونات محلية كالدروز، وتشن ضربات جوية دقيقة على مواقع تعتبرها امتداداً للنفوذ التركي. وإلى جانب العمل العسكري، تُفعّل تل أبيب مع واشنطن، خطاباً سياسياً يصنف حلفاء أنقرة كجهات إرهابية، في محاولة لعزلهم إقليمياً وتقويض أي صعود محتمل لهم.

إن واصلت أنقرة المضي قدماً في تسوية ملفها الكردي من الداخل، فقد تكون على موعد مع قفزة نوعية نحو موقع إقليمي فاعل، تتعزز فيه مكانتها وتُفرض رؤيتها كقوة يُحسب لها حساب في ميزان الجوار والعالم معاً

ضبط الصراع

ورغم احتدام التنافس بين القوى الإقليمية، لا يزال هذا الصراع محصوراً ضمن قواعد الاشتباك السياسي والاستخباراتي والدبلوماسي، من دون أن يتجاوز عتبة المواجهة العسكرية المباشرة. هذا ما ألمح إليه وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، حين أشار إلى إمكانيات التفاهم، ولو بصيغة رمزية، بين إسرائيل ودمشق، في أعقاب الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مطارات كانت تركيا تعتزم إنشاؤها في الأراضي السورية.

وقد انعكست هذه الديناميكيات على الأرض بترجمة دبلوماسية صامتة، تمثلت في فتح قنوات التواصل في العاصمة الأذربيجانية، باكو، التي باتت تشكل نقطة التقاء رمزية بين التاريخ التركي واليهودي، وبين تحولات الحاضر التي تعيد تشكيل معادلات التفاهم والصراع في آن معاً.

لكن ثمة تباين جوهري يلوح في الأفق بين المسارين التركي والإسرائيلي، يزداد وضوحاً مع كل محطة من محطات التوتر الإقليمي.

فإسرائيل، المحكومة ببنية أحادية ومأزق داخلي متراكم، تواصل خوض حرب مفتوحة ضد خصومها في فلسطين، لا سيما أولئك الذين يطالبون بحقهم في إقامة دولة قومية، على غرار النموذج الإسرائيلي ذاته. لكنها، ترفض هذا الطرح رفضاً قاطعاً، وتواجهه بمنطق القوة والعنف الممنهج، وهي لا تحتمل شريكاً آخر في الفكرة القومية ضمن فضائها السياسي.

على الجانب الآخر، اتجهت تركيا، من خلال مبادرة «السلام» مع عبد الله أوجالان، إلى استيعاب أزمتها الداخلية بعقلية أكثر نضجاً، وفتحت الباب أمام شراكة تاريخية مع الكرد في كل من تركيا وسوريا وكردستان العراق، تقوم على أسس المساواة والحقوق المتبادلة. هذا التحول البنيوي، كما عبّر عنه كل من باهجلي وأردوغان، لم يٌراقٍ لإسرائيل، التي بدأت تشعر بالانزعاج من مفاعيله المحتملة على توازنات النفوذ الإقليمي.

وقد يدفعها ذلك، كما يرى مراقبون، إلى محاولة عرقلة هذا المسار، إما عبر أدواتها النافذة داخل تركيا، أو عبر الضغط على أطراف كردية في الخارج، تسعى لشدّ الحبل بعيداً عن منطق التفاهم.

ومع ذلك، إن واصلت أنقرة المضي قدماً في تسوية ملفها الكردي من الداخل، فقد تكون على موعد مع قفزة نوعية نحو موقع إقليمي فاعل، تتعزز فيه مكانتها وتُفرض رؤيتها كقوة يُحسب لها حساب في ميزان الجوار والعالم معاً.

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.

من سلجوق بيك إلى سابتاي تسفي: جدلية العلاقة التركية اليهودية (1)

من سلجوق بيك إلى سابتاي تسفي: جدلية العلاقة التركية اليهودية (1)


تحولات العلاقة التركية اليهودية: من الدونمة إلى التتار القرم (2)

تحولات العلاقة التركية اليهودية: من الدونمة إلى التتار القرم (2)


أنقرة وتل أبيب: صدام على الهيمنة دون قطيعة (3)

أنقرة وتل أبيب: صدام على الهيمنة دون قطيعة (3)