ماذا يعني إعلان الشرع نهاية الثورة؟

جهاد حمي

بعد السقوط المفاجئ لنظام الأسد، سارع أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام ورئيس المرحلة الانتقالية، إلى إعلان أن «الثورة السورية قد انتهت بسقوط الأسد»، مشدداً على أنّ سوريا «لن تكون منصة لمهاجمة أو إثارة قلق أي دولة عربية أو خليجية مهما كان». كما أكد رفضه لأي محاولة لتصدير الثورة إلى خارج البلاد.

مع أنّ الشرع أدلى بتصريحات عديدة مثيرة للجدل، إلا أنّ هذا الإعلان تحديداً أثار قلقاً عميقاً لدى مناصري التنوير في سوريا. فبالرغم من أن مفردة «الثورة» باتت، في الوعي الجمعي السوري، مرتبطة بالخراب والدمار، إلا أن خطورة هذا التصريح لا تكمن فقط في مضمونه السياسي، بل أيضاً في كونه يتعارض مع المسار الطبيعي لتاريخ الثورة السورية، ويحمل في طياته مؤشرات مقلقة لما قد ينتظر السوريين في المستقبل.

منذ آذار/مارس 2011، وبعد عقود من القمع والاستبداد، كسر السوريون حاجز الخوف وخرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالحرية والكرامة، في سياق موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة. هذان المطلبان، الحرية والكرامة، لم يكونا مجرد شعارات، بل تحولا إلى جوهر وهوية الثورة السورية.

على هذا الأساس، لم يكن الهدف الأساسي للثورة، خاصة في أشهرها الأولى، هو إسقاط الأسد بحد ذاته، بل كانت حركة شعبية تطالب بحقوق الإنسان الأساسية واستعادة الارادة السياسية للشعب، مستندة إلى قيم إنسانية وتحريرية. غير أنّ القمع العنيف من قبل النظام، وتفكك الحياة السياسية بشكل ممنهج منذ عهد الأسد الأب، ومن ثم عَسْكَرة الحراك الشعبي، وتطيّيفه من قِبل جماعات إسلامية متشددة، أدى إلى تهميش هذه القيم وتراجعها عن المشهد.

نتيجة لذلك، بقيت أهداف الثورة بعيدة المنال، مع غياب الأطر السياسية والتنظيمية القادرة على تحويل هذه المطالب إلى واقع ملموس، ما أضعف قدرة الشعب السوري على تحقيق تطلعاته التي خرج من أجلها.

إن هيمنة الإسلام السياسي على مسار الثورة، بدعم من قوى إقليمية ودولية، هي التي مهّدت الطريق لوصول الشرع إلى السلطة. ومن خلال اختزال الثورة إلى مجرد صراع ضد الأسد، لا يُشوّه الشرع تطلعات السوريين التاريخية فحسب، بل يكشف أيضاً عن عدائه الأيديولوجي العميق لروح الثورة ذاتها

نهاية الثورة

من أبرز التحولات التي أضرت بالثورة السورية كان الانزياح الجذري في طبيعة مطالبها؛ فقد انتقلت من دعوة صريحة إلى الحرية والكرامة إلى تركيز ضيق على إسقاط الأسد «بأي وسيلة كانت» وهي عبارة لا يجب الاستهانة بها. فمع نهاية المرحلة السلمية، التي استمرت ستة أشهر وواجهت قمعاً دموياً من النظام، دخلت الثورة طوراً جديداً برعاية قوى دولية كأميركا والاتحاد الأوروبي، وبدعم إقليمي من تركيا والسعودية وقطر، حيث جرى دفع الحراك نحو العسكرة والطائفية من خلال تمويل وتسليح فصائل إسلامية، في إطار مشروع أوسع لتغيير النظام.

رافق هذا التوجه خطاب بالغ الخطورة، يقوم على فكرة :«سنتعاون حتى مع الشيطان من أجل إسقاط الأسد». وهكذا، انفصلت الوسائل عن الغايات، وتحوّلت الثورة من مشروع تحرري إلى صراع تكتيكي يخضع لمعادلة واحدة: من يقاتل النظام هو حليف، بغض النظر عن طبيعة مشروعه أو موقفه من الديمقراطية. هذا المنطق قضى على المطالب السياسية الأصلية، وفتح الباب أمام قوى مناهضة تماماً لأي انتقال ديمقراطي.

النخب السورية، بغالبيتها العظمى، شاركت في ترسيخ هذا السرد. اليساريون والليبراليون على حد سواء انساقوا خلفه، وساهموا في تشويه كل من عارضه، بتهم جاهزة كالتخوين أو التماهي مع النظام. في تلك اللحظة، ربما، انتهت الثورة فعلياً، لتصعد مكانها «قوى الثورة المضادة» التي اختزلت الصراع في معركة عسكرية بلا أفق سياسي.

بينما تم التخلّي عن المطالب التي استندت إلى مبادئ عالمية، والتي كانت تستلزم إعادة هيكلة الدولة وإحداث تغيير اجتماعي شامل، تقلّصت الثورة إلى هدف واحد: إسقاط الأسد، مع شيطنة طائفته العلوية التي صُوّرت تدريجياً كعدو دائم. ويمكن القول إن هذا المنطق، بكل ما يحمله من اختزال وتحريض، هو الذي مهد الطريق للمجازر التي نشهدها اليوم.

بالعودة إلى تصريح الشرع بإعلان نهاية الثورة بعد سقوط الأسد. في الحقيقة، هو، ومعه التيار الإسلامي السياسي الذي يُمثّله، كانوا قد أنهوا الثورة فعلياً قبل نحو عقد من زوال النظام. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم يُعلن عن نهايتها إلا بعد أن استتب له الحكم؟

ذلك أن هيمنة الإسلام السياسي على مسار الثورة، بدعم من قوى إقليمية ودولية، هي التي مهّدت الطريق لوصول الشرع إلى السلطة. ومن خلال اختزال الثورة إلى مجرد صراع ضد الأسد، لا يُشوّه الشرع تطلعات السوريين التاريخية فحسب، بل يكشف أيضاً عن عدائه الأيديولوجي العميق لروح الثورة ذاتها. فمنذ لحظة سيطرتها، اتخذت هيئة تحرير الشام موقفاً معادياً للأهداف الثورية الأصلية، ما يؤكد أن مشروعها لم يكن مشروع تحرري، بل مشروع هيمنة واستبداد.

إنّ إعلان نهاية الثورة، في جوهره، يحمل دلالة واضحة على تأسيس ديكتاتورية جديدة تقوم على القمع والعنف. فبإسقاط فكرة التغيير الثوري، تحتكر هيئة تحرير الشام السلطة وتمنح نفسها شرعية مطلقة لا تخضع لأي محاسبة، مما يضعها في موقع الحاكم الأوحد لسوريا المستقبلية. وفعلياً، يعني ذلك أن أي دعوات للإصلاح، أو مطالب بالمشاركة السياسية، أو حتى مجرد تحدٍّ لحكمها، ستُواجَه بالعنف والتصفية.

حين يُقال إن الثورة انتهت، فذلك إيذان بنهاية السياسة ذاتها، ومحاولة لطمس المجال الذي يمكن فيه التفكير في البدائل أو تخيّل مستقبل مختلف. وهذا ما تجسّد عمليًا في مؤتمر الحوار الوطني الشكلي، والإعلان الدستوري المؤقت الهزلي، والحكومة أحادية اللون والتوجه

وأد السياسة

الثورة، في جوهرها، هي وعد بالتغيير وبناء مستقبل مشترك قائم على الحرية والمشاركة. لكن حين يعلن الشرع، فهو لا يُنهي صراعاً سياسياً فحسب، بل يشرعن لحظة الارتداد عن هذا الوعد، وتفرض حالة من الجمود الاستبدادي، حيث يُقمع أي اعتراض وتُسحق محاولات التغيير تحت وطأة العنف. بهذا الإعلان، يضفي الشرع شرعية على سلطته المطلق، وتُفرغ المجال السياسي العام من معناه، محوّلة إياه من ساحة للنشاط السياسي الجماعي إلى فراغ خاضع للقمع.

حسب المنظّرة السياسية حنّة أرندت، كما أشارت في كتابها «في الثورة»، فإن جوهر الثورة لا يقتصر على إسقاط الأنظمة القائمة، بل يتمثل في إنشاء فضاء سياسي جديد يتيح للأفراد إمكانية المشاركة الفعلية في تقرير مصيرهم الجماعي من خلال ما تسميه بـ «العقد الاجتماعي». هذا الفضاء، أي المجال العام، هو المكان الذي تتجسد فيه الحرية من خلال النقاش الحر والمشاركة التعددية و حق المساءلة. وحين يُقال إن الثورة انتهت، فذلك إيذان بنهاية السياسة ذاتها، ومحاولة لطمس المجال الذي يمكن فيه التفكير في البدائل أو تخيّل مستقبل مختلف. وهذا ما تجسّد عمليًا في مؤتمر الحوار الوطني الشكلي، والإعلان الدستوري المؤقت الهزلي، والحكومة أحادية اللون والتوجه.

في مثل هذا السياق، تتحوّل السياسة إلى خطر، ويُصوَّر الفعل السياسي بوصفه تهديداً للنظام. تُجرَّم المطالب بالإصلاح، ويُنظر إلى أي نقد باعتباره خيانة، بينما تستبدل المشاركة بالخوف، ويُفرض الصمت ليس فقط على الأجساد، بل على الأفكار أيضاً. لم يعد الأمر انتقالاً في مراكز القوة، بل تأسيساً لحكم شمولي يُقصي كل ما لا يندرج ضمن سلطته. فهل سيجرؤ أحد على الخروج للمطالبة بالحق في التظاهر السلمي في دمشق، وفقاً للقيم الكونية في مثل هذه الأيام؟

يشير والتر بنيامين في عمله «أطروحات في فلسفة التاريخ»، مستنداً إلى نقد كارل شميث للدولة الحديثة، فإن «حالة الاستثناء»، حيث تُعلّق القوانين بحجة الحفاظ على النظام، لا تُعدّ ظرفاً مؤقتاً، بل آلية دائمة تُبنى عليها سياسات الهيمنة. حين يعلن الشرع «نهاية الثورة»، فإنها لا تضع حداً للفوضى، بل تُكرّس وضعاً طارئاً مفتوحاً، تُمارَس فيه السلطة دون قيود أو محاسبة. هذه هي بالضبط الصورة الهزلية المكررة لتراجيديا قانون الطوارئ في عهد الأسد!.

في ظل هذا الوضع، تُحوَّل أي دعوة إلى التغيير إلى جرم سياسي. يؤسس الشرع سلطته عبر قمع كل محاولة لإنعاش المجال السياسي من جديد، ويُشيطن أي حراك شعبي بوصفه تخريباً أو مؤامرة. ويصبح القانون نفسه خاضعاً لإرادة الحاكم، لا مرجعية تُقيده، كما يرى بنيامين، بل أداة تُشرعن العنف وتُعيد إنتاجه.

ضمن هذا الإطار، يمكن قراءة المجازر المرتكبة بحق الطائفة العلوية. فهي ليست مجرد أعمال انتقامية، بل جزء من منظومة رعب تهدف إلى القضاء على أي إمكانية للعدالة أو المصالحة. العنف هنا لا يستهدف الأجساد فحسب، بل يُراد به تدمير فكرة التعايش، وإغلاق الباب أمام أي تصور لمستقبل قائم على الشراكة السياسية والاعتراف المتبادل.

إن إعلان نهاية الثورة، إذاً، ليس خاتمة لصراع، بل بداية لنظام يُقصي السياسة ويُبقي المجتمع في حالة دائمة من الطوارئ والخوف. نظامٌ لا يحكم فقط بالقوة، بل يطمح إلى السيطرة على الخيال، بحيث يبدو المستقبل ذاته غير ممكن.

لطالما حاول الطغاة إيقاف عجلة التاريخ، لكنهم فشلوا. الشرع ليس أول من يعلن نهاية الثورة، ولن يكون الأخير. فالتاريخ، كما يعلّمنا، لا يتوقف. وقوده الدائم هو أحلام الشعوب وإرادتهم في التغيير

خادم للاحتلال الناعم

في تتمة تصريحه، حين يقول الشرع إن سوريا «لن تسمح بتصدير الثورة إلى دول أخرى»، يكشف عن موقف يتماهى مع سياسيات الهيمنة، ليؤدي وظيفة أوسع ضمن ما يسميه عالم الاجتماع إيمانويل فالرشتاين بـ«النظام العالمي». في هذا النظام، يُنظر إلى أي حركة تحررية ناشئة من الدول الطرفية أو شبه الطرفية كتهديد محتمل للبنية المركزية التي تضمن استمرارية السيطرة السياسية والاقتصادية. ما يفعله الشرع هنا ليس فقط وأد الثورة داخل سوريا، بل محاصرة أي شرارة يمكن أن تمتد إلى الجوار، بما يخدم استقرار المنظومة التي تعتمد على تبعية للمركز المهمين. وهذا هو السبب الخفي وراء تكالب القوى الدولية والإقليمية لتطويق الحراك الشعبي في سوريا وتحويله إلى مسارات مدمرة، بحيث أصبحت مفردة «الثورة» بمثابة «اللعنة في الذاكرة الجمعية للسوريين».

بهذا المنطق، يُقدّم الشرع نفسه كضامن للنظام العالمي القائم، لا كند سياسي له. فرفضه «تصدير الثورة» ليس موقفاً سيادياً، بل تعهد بعدم المساس بالبنى التي تضمن استمرار هيمنة القوى المركزية، لاسيما في الخليج. دول الخليج بدورها تلعب دوراً حيوياً في ترسيخ هذا التوازن، سواء عبر التحكم بمصادر الطاقة أو من خلال تحالفاتها الوثيقة مع الغرب. وباصطفافه مع هذه القوى، يُعيد الشرع تأكيد موقع سوريا كدولة خاضعة في التقسيم العالمي للعمل، وليس كفاعل شبه مستقل يسعى لتغيير هذا الواقع. حتى أصبح لسان حال السوريين يردد«الشرع، وكأنه في مسعى يائس، يستجدي الشرعية الخارجية، بينما يتغاضى عن أبسط حقوق شعبٍ نُكِب بالدمار!».

ولعل بهذه الطريقة، يُرسل رسالة مطمئنة إلى القوى الدولية ومراكز القرار الإقليمي: اطمئنوا، فلن نخرق القواعد. نحن على كامل الاستعداد لأداء دور الخادم المطيع، في مشهد يعيد إلى الأذهان مقولة «فتى الاستعمار» ودوره في ترسيخ الهيمنة على شعبه.

لطالما حاول الطغاة إيقاف عجلة التاريخ، لكنهم فشلوا. الشرع ليس أول من يعلن نهاية الثورة، ولن يكون الأخير. فالتاريخ، كما يعلّمنا، لا يتوقف. وقوده الدائم هو أحلام الشعوب وإرادتهم في التغيير. ورغم قِصرها، شكّلت الأشهر الستة الأولى من الثورة السورية لحظة نادرة في تاريخ البلاد. ظهرت فيها أشكال نضال مدني، تُعبّر عن تطلعات عميقة نحو وطن يتّسع للجميع، وطن عادل وديمقراطي. شعارات مثل: «لا سلفية ولا إخوان… بدنا دولة مدنية… «الموت ولا المذلة»… «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد»… «حرية للأبد، غصب عنك يا أسد». لم تكن مجرد هتافات، بل تعبيرات صادقة عن الرغبة في بناء سوريا جديدة، خالية من جميع صنوف الاستبداد.

اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى استعادة هذه اللحظة. ليس بوصفها ذكرى عابرة، بل كبوصلة نضالية، وإرث حي يمكن أن يجمع السوريين من جديد حول رؤية مشتركة. في مواجهة نظام قمعي يدّعي تمثيل الثورة بينما يدوس على مبادئها، تصبح هذه الذاكرة بمثابة وطن رمزي، نلتقي فيه، ونتحاور من خلاله، ونبني على أساسه مستقبلاً مختلفاً.

من خلال استحضار هذه الشعارات والمبادئ، يمكننا أن نعيد نسج حكايتنا، لا كقصة هزيمة، بل كإرادة مستمرة للتغيير. قصة قد تكون مؤلمة، لكنها أيضاً مليئة بالإمكانيات… وربما بالجمال رغم كل بشاعة الواقع القائم.

جهاد حمي: كاتب مقيم في ألمانيا. يدرس الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هامبورغ. تم نشر كتاب له باللغة الإنكليزية مؤخراً بعنوانROJAVA IN FOCUS: CRITICAL DIALOUGES بالاشتراك مع البروفيسور توماس جيفري مايلي.