الحوكمة الإسلاموية والحياد الزائف

 

فرهاد حمي

في أول ظهور له بعد سقوط نظام بشار الأسد، قدّم أحمد الشرع، الرئيس السوري المؤقت، خطاباً شعبوياً بنبرة انتصارية خلال لقاء مع المؤثر الأردني جو حطاب داخل قصر الشعب. استند إلى سردية المظلومية السنيّة، لكنه استخدم مصطلحات تقنية مألوفة في أوساط المنظمات غير الحكومية، مما أثار دهشة المراقبين، خاصة مع خلفيته الجهادية.

مع مرور الوقت، بات خطابه يتكرر حول أهمية الخبراء والكفاءة في بناء الدولة، دون أي انفتاح على التنوع السياسي السوري. وبذلك، بدا وكأنه يعتمد خطاباً مزدوجاً: أحدهما جهادي شعبوي، والآخر تكنوقراطي إداري يُستخدم لتلميع صورته أمام الغرب.

في ظل هذا الوضع، تتنصل الدول الأوروبية من الأيديولوجيا التي يحملها أحمد الشرع، مكتفيةً بخطاب عام حول بناء دولة «مستقرة وشاملة» دون تحديد آليات واضحة لتحقيق ذلك. ومع هذا التحفظ، يظهر الرهان الأوروبي عليه- استناداً إلى الفكرة القائلة بأن دمج الجهادية في هيكل الدولة القومية قد يسهم في دفعها نحو الاعتدال. على هذا الأساس، بدأت أوروبا في الانفتاح الدبلوماسي على دمشق، مع وعود برفع العقوبات، وتقديم المساعدات الإنسانية عبر المنظمات غير الحكومية، والمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار.

تقاطر موفدو البنك الدولي إلى دمشق، بينما سارع «الخبراء الاقتصاديون السوريون» غير المعروفين للرأي العام إلى العاصمة، وهم يطمحون إلى إعادة استنساخ إمبراطورية رامي مخلوف تحت مزاعم كاذبة تتعلق باقتصاد السوق الحر والاستثمار

الواقعية القاتلة

لكن الصدمة كانت في جانب آخر، تحديداً من السوريين الذين يقاومون سلطة «الإسلاموية الخضراء»، حيث يقفون مذهولين أمام تعامل الدول الأوروبية مع النسخة الجهادية الأصولية التي تفرض سيطرتها على الحكم لأول مرة في التاريخ السوري المعاصر. لا يبدو أنّ الإعلام الغربي، بما في ذلك نُخَبه الحاكمة، يطرح تساؤلات أخلاقية حول القيم التنويرية التي طالما تبناها، خصوصاً بعد مجازر الساحل السوري، حيث قُتل نحو 2500 مدني وفق بعض التقديرات.

على النقيض من ذلك، وبعد حضور أسعد الشيباني مؤتمر باريس، وجهت بروكسل مؤخراً دعوة له لحضور مؤتمر المانحين السنوي، في وقت لم يمضِ فيه سوى أيام على مجازر الساحل. وقد احتكر الشيباني لنفسه شرعية الحديث باسم المجتمع السوري، متحدثًا عن حقوق الإنسان والمرأة ودولة المواطنة، في مشهد مكشوف من التضليل الفج، كأنه يُطلب من المجتمع السوري الإذعان للأيديولوجيا الأصولية التي ترسخت في الإعلان الدستوري المؤقت، والفعل الإبادي في الساحل السوري، والاكتفاء بمراقبة توزيع ابتسامات السفراء والمبعوثين الأوروبيين، لأن المصالح الآنية والتوازن الجيوسياسي هما ما يحددان ما هو مقبول وما هو غير ذلك. هذا هو بالضبط «الواقعية القاتلة» بنسختها النقية.

دائماً ما توجد مساحة للتجميل والتغطية على الواقع الوحشي هذه، وهنا تبرز كما العادة، القوة الناعمة التي تتمثل في هند قبوات، المرأة الليبرالية المقيمة في الخارج، التي تشارك في قيادة حكومة أحمد الشرع الأصولية بعد عملها في منظمات غير حكومية في إدلب. فهي تشبه في ذلك جمانة رياض سيف، التي ادّعت بدورها تمثيل المجتمع المدني السوري أمام مجلس الأمن مؤخراً، وظهرت في جلسة خاصة بعد مجازر الساحل، حيث قدمت تبريراً غير مباشر لتلك المجازر.

في ذات السياق، تقاطر موفدو البنك الدولي إلى دمشق، بينما سارع «الخبراء الاقتصاديون السوريون» غير المعروفين للرأي العام إلى العاصمة، وهم يطمحون إلى إعادة استنساخ إمبراطورية رامي مخلوف تحت مزاعم كاذبة تتعلق باقتصاد السوق الحر والاستثمار.

في جوهر الأمر، تعكس هذه المواقف محاولة الخبراء والمنظمات غير الحكومية لفصل السلطة وأيديولوجيتها عن إدارة الحكومة والاقتصاد والمجتمع، وهو ما يتطلب توفير الكفاءات المناسبة ووضع خطط تقنية لمعالجة الأزمات التي خلّفها الصراع السوري، والذي وصفته هيلاري كلينتون بـ«مذبحة القرن الجديد». ورغم التناقض الإيديولوجي الظاهر، تبقى العلاقة بين هذه الفئات وحكومة الشرع مصلحية بحتة، حيث يُمنح المال مقابل تجميل صورة السلطة.

«التكنوشعبوية»  والحوكمة الإسلاموية

في هذه النقطة، يمسي من الضروري إعادة قراءة «الإسلاموية الأصولية» في سياق السلطة والإدارة، مع مراعاة التحولات السياسية الدولية والمفاهيم الجديدة التي ظهرت مؤخراً. ولعل تُفهم هذه المقاربة بشكل أدق من خلال عملية تحليلية معقدة تأخذ بعين الاعتبار التداخل بين العوامل الذاتية «المحلية» والموضوعية «الدولية والإقليمية»، بدلاً من الفصل بينهما.

من المهم أيضاً الابتعاد عن التفسيرات الذاتية المفرطة التي تتجاهل التأثيرات الدولية على الوضع الأصولي الجهادي في سوريا، سواء من الناحية الأيديولوجية أو من حيث المصالح. لأن هذه التفسيرات تتلاشى عند التعامل مع القوى الخارجية، كما حدث أثناء سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب أو في مرحلة الانفتاح الغربي بعد الأسد. علاوة على ذلك، لا يصح النظر إلى المشهد من زاوية هيمنة القوى الخارجية فحسب، لأن الأيديولوجيا الجهادية تمنح الفصائل المتشددة هامشاً واسعاً من المناوارة الذاتية، كما رأينا في مجازر الساحل.

تتمثل الإحاطة المعقولة لفهم هذه الحالة في مصطلح «التكنوشعبوية»، الذي أصبح مفهوماً متداولًا في السياسة الدولية العامة. إذ برز هذا المصطلح مع حكومة بوريس جونسون في بريطانيا، ثم في إيطاليا مع حكومة ماريو دراغي والتيارات الشعبوية. كما تجلى في سياسات إيمانويل ماكرون وحكام آخرين مثل ترامب وأردوغان وبوتين، لا سيما بعد انهيار الصراع الأيديولوجي بين اليسار واليمين. وهو ما ترك المجتمع السياسي بلا إيديولوجيات طبقية صلبة، وجعل الحالة السياسية بلا هويات ثابتة، في عصر يُعرف بـ«ما بعد الأيديولوجيا».

في إطار «التكنوشعبوية»، يُختصر النقاش السياسي في خطاب شعبوي معادٍ لما يعرف بـ «الطبقة النخبوية المؤسساتية» في الغرب، بحيث يبسط القضايا المعقدة مثل المساواة، العدالة الاجتماعية، التعددية الثقافية، والصراع الطبقي، تحت ستار التجانس والتفوق القومي والديني، مع التركيز على الكفاءة والخبرة. هذه المنهجية تضعف الهويات الطبقية وتُعظم الكفاءة، مما يجعل الحقوق السياسية مقتصرة على من يمتلك الخبرة التقنية، وهو ما يُعد شكلاً من «التكنوفاشية» كما تشير الباحثة الأمريكية، جانيس ميمورا.

بالتالي، يمكن تأطير المصطلح في سياق سوريا بـ «الحوكمة الاسلاموية الجهادية» التي تتغذى من عوامل تبسيطية شعبوية، مثل الإحباطات الطائفية والتفوق السنّي العروبي، مما يجرّم التعددية الثقافية. وتنظر إلى المجتمع السوري ككتلة متجانسة، وتحدد الأعداء الخارجيين كتهديدات. في حين تزعم بأنها تعالج القضايا السياسية والاقتصادية المصحوبة بالمرحلة الانتقالية بحلول تكنوقراطية، ما يخلق معادلة تجمع بين الشعبوية الأصولية والنزعة التكنوقراطية التي تزعم الحياد، مستعينة بالخبراء والمنظمات غير الحكومية بدلاً من الفعل السياسي التشاركي.

تتيح هذه المقاربة الفجة لأحمد الشرع مخرجاً لاحتكار مقولة «الشعب السوري» ككتلة متجانسة قومياً ودينياً، متجاهلاً تنوعه ومصالحه المتعددة، كما يتّضح في الصراعات مع القوى السياسية المحلية والجماعات الأهلية ذات المشارب الدينية والقومية، يستعاض عن ذلك بتسويق سياسات تكنوقراطية مبهمة في مجال الحكومة والإدارة، مثل تسريح موظفي الدولة بقرار فردي وفق مشورة الخبراء. وقد تجلت هذه النزعة بشكل جلي في لقاء أسعد الشيباني مع توني بلير، حيث قدّم رؤية سطحية عن الوضع السوري، واعداً بتطورات تنموية ضخمة تحت شعار «سوريا أولاً».

إدلب والحوكمة الإسلاموية

لم تولد هذه المقاربة فجأة لدى الشرع، بل هي تحمل سياقاً زمنياً متراكماً. فلطالما كان لهيئة تحرير الشام سجل حافل في الموازنة بين السلطة الأصولية والحكم التكنوقراطي، إذ كان ذلك جزءاً أساسياً من استراتيجيتها كنظام حاكم خلال فترة الحرب في إدلب.

أنشأت هيئة تحرير الشام «حكومة الإنقاذ السورية» لإدارة الشؤون المدنية بشكل غير مباشر، مستبدلة المجالس المحلية التي كانت تحت قيادة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا منذ 2017. هذا النهج منح الهيئة السيطرة على الشؤون العسكرية والأمنية، بينما فوّضت قادة المجتمع المدني المحليين لإدارة قضايا مثل البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية. اعتبرت الهيئة ذلك جزءاً من استراتيجيتها لجذب التمويل وكسب الشرعية الدولية، بهدف تقديم نفسها كحكام شرعيين لسوريا ما بعد الأسد. لذا، فإن ما يُوصف بـاعتدال حكومة الإنقاذ يُعد قراراً سياسياً محسوباً لضمان قبول شعبي واستمالة المراقبين الدوليين.

بعد انتقال هيئة تحرير الشام للسيطرة على الحكومة الانتقالية في دمشق، استمرت في اتباع نهج مشابه فيما يتعلق بالسلطة والإدارة. ويسعى وزير الخارجية الجديد، أسعد الشيباني، لاستقطاب أفراد من الشتات السوري للعودة إلى البلاد، باعتبارها خطوة ضرورية لإعادة بناء الاقتصاد. ومع ذلك، يبقى هناك خلل جوهري في هذا الخطاب، إذ إنّ معظم «الخبراء» يعملون في منظمات غير حكومية مدعومة من المانحين الدوليين، وعودتهم مشروطة بموقف حياد تجاه السلطة، مع الحفاظ على مساحة نقدية تجميلية لا تهدد السلطة الحاكمة.

حيث تتركز مراكز القوة العسكرية والأمنية في قبضة السلطة المركزية، كما فعل أحمد الشرع بتأسيس الجيش والأمن واحتكار السلاح دون استشارة المجتمع السوري. هذا النموذج تدعمه الدول الغربية والإقليمية لفرض عقيدة «الاستقرار» عبر فصيل يثير رهبة المجتمع

الشرع والخبراء

في لقائه مع مجلة إيكونوميست، تجنب أحمد الشرع تقديم مواقف واضحة بشأن العملية الانتقالية، محيلًا معظم الأسئلة إلى «الخبراء» و«اللجان المختصة». فقد أشار إلى أن موضوعات مثل صياغة الدستور، قانون الانتخابات، وقانون الأحزاب هي قيد التشاور مع الخبراء والأمم المتحدة، وأكد أنّ عملية إحصاء السكان تحتاج لعدة سنوات. كما تجنب الإجابة حول إدراج الشريعة في الدستور، مشيراً إلى أنّ «الخبراء هم من يقررون»، مؤكداً أن تشكيل الحكومة والمجلس القضائي سيتم بناء على «الكفاءة».

يُفهم من هذه التصريحات، كيفية دمج نموذج الشعبوية الأصولية مع التكنوقراطية، حيث تتركز مراكز القوة العسكرية والأمنية في قبضة السلطة المركزية، كما فعل أحمد الشرع بتأسيس الجيش والأمن واحتكار السلاح دون استشارة المجتمع السوري. هذا النموذج تدعمه الدول الغربية والإقليمية لفرض «عقيدة الاستقرار» عبر فصيل يثير رهبة المجتمع.

في المقابل، تُترك تقديم الحلول التقنية للحكومة التي يشرف عليها خبراء معيّنون من فريق الشرع وبعض الدول، مثل بريطانيا وألمانيا وتركيا وفرنسا، اعتماداً على بيانات وحقائق غير منهجية، أو ما يُعرف بـ «العلوم الزائفة». بينما يتفرغ المجتمع المدني مشوه وممول من الخارج، المساهمة في تفكيك التحالفات الاجتماعية المحلية، وتحسين صورة الجهادية الأصولية، مما يؤدي إلى تهميش السياسة الحقيقية التي تدافع عن مصالح المجتمع، أي سياسة بلا سياسة.

أفول السياسة

السياسة، وفقاً ليورغان هابرماس، تظهر عند الحاجة إلى اتخاذ قرارات لا تعتمد فقط على الحقائق والبيانات، بل أيضاً على مجموعة من المعتقدات والمصالح والطبقات التي توفر إطاراً للعمل. وعندما يُغيب هذا المنظور من النقاشات السياسية التي تعتمد على المصالح الحياتية للمجتمع، يتبدد المعنى ويصبح الفعل السياسي مجرد تفاعل مصلحي شبيه بالانشطة التجارية، مما يؤدي إلى تحلل النظام السياسي وزيادة الأزمات.

وعند اختزال محور النقاش الرئيسي في السياق السوري حول الكفاءة وأداء الحكومة فقط، يتم بذلك تجاهل القضايا الأكثر تعقيداً ومصيرية والمتعلقة التي تمزق المجتمع. ضمن هذا السياق، تصبح الحوكمة الإسلاموية نموذجاً تجريدياً فارغاً من أي دلالة علمية قادرة على التعامل مع تعقيدات الأزمة السورية. كيف يمكن لهذا النهج أن يعالج الأزمة الضخمة التي تتفاقم مع استمرار الفقر، وتدمير البنية التحتية، وهجرة الملايين؟ كيف يمكنه معالجة غياب دولة المواطنة والديمقراطية في ظل عقلية الاقصاء والتشحين الطائفي؟ ثم، كيف لهذه السياسات أن تغيّر مسار واقع سوريا، التي تحولت إلى ساحة لصراعات القوى الدولية والإقليمية؟ وهكدا دواليك…

رغم إدراك المسؤولين الأوروبيين لهشاشة الوضع السوري، والفظائع المرتكبة في الساحل، اختاروا دعم أحمد الشرع لأسباب جيوسياسية واقتصادية، خاصة في ما يتعلق بملف اللاجئين. هذا الدعم يعكس وعيهم بعدم أهلية هؤلاء للسياسة، ومع ذلك، يسعون للتوصل إلى تسويات عبر «الشعبوية الأصولية» و«التكنوقراطية الحيادية». كما يكشف هذا الموقف كيف تخلت أوروبا، من خلال سياساتها المرتبكة، عن تراثها التنويري لصالح تفضيل الأصولية الجهادية، التي تتعهد لهم بتحقيق التوازن والردع في مواجهة خصومها مثل إيران وروسيا.

إجمالاً، ستواجه سياسات أحمد الشرع العديد من التحديات، إذ إن الميول المعتدلة التي يظهرها تعتمد في الغالب على مصالحه الشخصية أكثر من كونها تحولًا أيديولوجياً حقيقياً. فلم تشهد مؤسسته أي تغيير فكري جوهري، بل تواصل التعامل مع الواقع وفق منطق إدامة السلطة واحتكارها. بالإضافة إلى ذلك، يظل الرهان الغربي على الشرع لطرد العناصر الجهادية الأكثر تطرفًا غير حاسم. بينما اصطدمت محاولات تشكيل حكومة أكثر علمانية وديمقراطية بالواقع الدستوري المؤقت، ظل الخيار القائم هو المراهنة على حوكمة إسلاموية، مسنودة من الغرب، ومتوافقة مع رغبات الشرع وأهدافه، لكنها حتماً متناقضة مع تطلعات الشعب السوري.

فرهاد حمي: كاتب وصحفي مهتم بشؤون الشرق الأوسط وسوريا. كتب في العديد من الصحف ومراكز الدراسات.